براءتهم مِنْهَا هِيَ الَّتِي من أجلهَا يطْلب الْمَرْء؛ فَإِذا لم يكن هُنَاكَ شَيْء من ذَلِك فعلام يلح هَؤُلَاءِ فِي طَلَبهمْ؟
وَهنا قَالَ النَّجَاشِيّ لِابْنِ الْعَاصِ: فَمَا تطلبون مِنْهُم؟
وَسقط فِي يَد عَمْرو، فَلم يسْتَطع إدانتهم بِشَيْء من ذَلِك حَتَّى يسلمهم الْملك إِلَيْهِ، وَلكنه قَالَ: كُنَّا وهم على دين وَاحِد، فتركوا ذَلِك وَاتبعُوا غَيره.
وتطلعت نفس النَّجَاشِيّ لمعْرِفَة الدّين الْجَدِيد، فَقَالَ لجَعْفَر: مَا هَذَا الدّين الَّذِي قد فارقتم فِيهِ قومكم، وَلم تدْخلُوا فِي ديني، وَلَا فِي دين أحد من الْملَل؟
وحانت الفرصة للداعية اللبق فانتهزها، وَنحن قد لاحظنا أَن جَعْفَر - رَضِي الله عَنهُ - حَتَّى هَذِه اللحظات لم يتَكَلَّم كلمة وَاحِدَة عَن الْإِسْلَام، وَلَعَلَّه ترك الْكَلَام عَن الدعْوَة حَتَّى تحين الفرصة وتتهيأ النُّفُوس للتلقي، فَيكون شوقها إِلَى الِاسْتِمَاع أعظم، وتقبلها لما يلقى عَلَيْهَا أَكثر.
وَلَعَلَّ النَّجَاشِيّ نَفسه - وَقد طَال بَين يَدَيْهِ الْأَخْذ وَالرَّدّ والقيل والقال دون أَن يسمع شَيْئا عَن الدّين الْجَدِيد - قد شغف بِأَمْر هَذَا الدّين، وتاقت نَفسه ليعرف شَيْئا عَنهُ، فَسَالَ جَعْفَر هَذَا السُّؤَال، وَلم يتَرَدَّد جَعْفَر فِي الْإِجَابَة، وَكَأَنَّهُ أدْرك لهفة النَّجَاشِيّ وتعلقه بِمَعْرِِفَة الدّين، فأسهب فِي الْإِجَابَة وَالنَّجَاشِي منصت يستمع إِلَيْهِ، وَذكر جَعْفَر كل مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة من أَعمال سَيِّئَة، وقفّى عَلَيْهَا بتعاليم الدّين الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَبَين أَن الله أنقذهم مِمَّا كَانُوا فِيهِ ببعثة الْمُصْطَفى الَّذِي دلهم على الْخَيْر وحذرهم من الشَّرّ، وَأمرهمْ بِالْمَعْرُوفِ ونهاهم عَن الْمُنكر، وحثهم على مَكَارِم الْأَخْلَاق ومحامد الْعَادَات.
وركز جَعْفَر على إبراز التَّوْحِيد؛ لِأَنَّهُ أساس العقيدة الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَام لينشرها فِي الْعَالمين، وَلِأَن أَي دين لَا يقوم على أساسها فَهُوَ بَاطِل لَا يُغني عَن صَاحبه شَيْئا، ثمَّ الْتفت جَعْفَر إِلَى النَّجَاشِيّ وَكَأَنَّهُ يُرِيد أَن يستعديه على هَؤُلَاءِ الَّذين يلاحقونهم؛ فَقَالَ: فَلَمَّا صدقنا النَّبِي وآمنا بِهِ، واتبعناه على مَا جَاءَ بِهِ من الله، فعبدنا الله وَحده، وَلم نشْرك بِهِ شَيْئا، وحرمنا مَا حرم علينا، وأحللنا مَا أحل لنا، عدا علينا قَومنَا، فعذبونا وفتنونا عَن ديننَا ليردونا إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان؛ فَلَمَّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بَيْننَا وَبَين ديننَا، خرجنَا إِلَى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا فِي جوارك، ورجونا أَن لَا نظلم عنْدك أَيهَا الْملك! 1.
واشتاق النَّجَاشِيّ بعد هَذَا الحَدِيث الطلي عَن الدّين الْجَدِيد لِأَن يسمع شَيْئا من