إِن اعتزاز الْإِنْسَان بعقيدته فِي مثل تِلْكَ المواقف الَّتِي ترتجف فِيهَا قُلُوب الْمُنَافِقين أكبر دَلِيل على صدقه فِي دَعْوَاهُ، إِذْ لَو كَانَ كَاذِبًا لنافق حَتَّى لَا يُؤْذى، وداهن حَتَّى يصل إِلَى مأربه، وَالْمُسلم قد يجامل غَيره ليستميله، وَقد يلاطفه ليدله على الْحق، كل ذَلِك لَا بَأْس بِهِ مَا دَامَ لَا يمس العقيدة وَلَا يكون على حِسَابهَا، أما أَن يصل الْأَمر إِلَى حد التهاون فِي العقيدة، وصرفها إِلَى غير الله - عز وَجل - فَذَلِك مَا يرفضه الْمُؤمن وَلَو علقت لَهُ المشانق، وَذَلِكَ مَا فعله جَعْفَر وَأَصْحَابه.
إِن السُّجُود لغير الله انحراف فِي العقيدة يُؤَدِّي إِلَى الْكفْر، ومظهر من مظَاهر الضعْف النَّفْسِيّ لَا يَفْعَله إِلَّا جبان خوار، وَلِهَذَا رفض الْمُهَاجِرُونَ أَن يسجدوا للنجاشي، وَلَو أدّى ذَلِك إِلَى طردهم من مأمنهم وإخراجهم يسيحون فِي الأَرْض على غير هدى.
وَلَقَد كَانَ ذَلِك الْموقف الجريء من جمَاعَة الْمُهَاجِرين الَّذين يعيشون فِي غير بِلَادهمْ مهددين فِي كل لَحْظَة بالطرد والإبعاد عَن أَرض وجدوا فِيهَا طمأنينة قُلُوبهم والأمان على دينهم؛ من أهم الْأَسْبَاب الَّتِي جعلت النَّجَاشِيّ يقف على حَقِيقَة صدقهم، ويعتز بوجودهم فِي بِلَاده، ويمنحهم الْأمان مَا داموا فِي جواره.
وَأدْركَ جَعْفَر الداعية الأريب أَنه فِي موقف حرج، وَأَن الْأَمر يتطلب إِعْطَاء الْملك حَقه من الاحترام وَالتَّقْدِير، وَإِن الْحَاجة إِلَى إقناع الْملك بسلامة موقفهم أهم من الدُّخُول فِي مناقشة مَعَ الْخصم اللدود؛ فَقَالَ: إِنَّك ملك لَا يصلح عنْدك كَثْرَة الْكَلَام وَلَا الظُّلم، وَأَنا أحب أَن أُجِيب عَن أَصْحَابِي1.
وَطلب النَّجَاشِيّ أَن يسمع من كلا الطَّرفَيْنِ حَتَّى يقف على حَقِيقَة الْأَمر، وَهنا قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ لجَعْفَر: تكلم.
فَالْتَفت جَعْفَر إِلَى النَّجَاشِيّ وَقَالَ: سَله أعبيد نَحن أم أَحْرَار؟ فَإِن كُنَّا عبيدا فقد أبقنا من موالينا فارددنا عَلَيْهِم.
فَقَالَ عَمْرو: بل أَحْرَار كرام.
قَالَ جَعْفَر: هَل أرقنا دَمًا بِغَيْر حق فيقتص منا؟
قَالَ عَمْرو: وَلَا قَطْرَة.
قَالَ جَعْفَر: فَهَل أَخذنَا أَمْوَال النَّاس بِغَيْر حق فعلينا قَضَاؤُهَا؟
قَالَ عَمْرو: وَلَا قِيرَاط.
وَهنا تبين الْأَمر للنجاشي، وآمن بسلامة موقف الْمُهَاجِرين، إِن هَذِه الْأُمُور الَّتِي ثبتَتْ