فتعاهدوا الأعمال، ولم يتعاهدوا القلوب، والقلب هو الأصل، إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.

ومثال هؤلاء كمثل رجل زرع زرعاً، فنبت معه حشيش يفسده، فامر بقلعه، أخذ يجز رؤوسه وأطرافه ويترك أصوله، فلم تزل أصوله تقوى.

وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة، إلا أنهم بعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى بذلك العوام دون من بلغ مبلغهم من العلم، فإذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة. قال أحدهم: ما هذا بكبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، وإرغام المبتدعين، فإني لو لبست الدون من الثياب، وجلست في الدون من المجالس، شمتت بى أعداء الدين، وفرحوا بذلى، وفى ذلي ذل الإسلام، وينسى الغرور، وأن إبليس هو الذي سول له هذا بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يتواضعون ويؤثرون الفقر والمسكنة.

وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه لما قدم الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه وأمسكهما، وخاض الماء، ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض، فصك في صدره وقال: أوه لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة.

إنكم كنتم أذل وأحقر الناس، فأعزكم الله برسوله، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله (?).

وفى رواية عنه: لما قدم الشام، استقبله الناس وهو على بعيره. قيل له: لو ركبت برذوناً تلقى به عظماء الناس ووجوههم؟ فقال عمر رضى الله عنه: لا أراكم هاهنا، إنما الأمر من هاهنا -وأشار بيده إلى السماء- خلوا سبيل جملي.

ثم العجب من مغرور يطلب عز الدنيا بالثياب الرفيعة، والخيول الفارهة ونحو ذلك، وإذا خطر له خاطر الرياء قال: إنما غرضي بهذا إظهار العلم والعمل، لاقتداء الناس بى ليهتدوا إلى الدين، ولو كان هذا قصده لفرح باقتداء الناس بغيره كما يفرح باقتدائهم به، لأن من كان قصده صلاح الخلق يفرح بصلاحهم على يد من كان،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015