بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا، وَهِيَ آخِرُ مَغَازِيهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجتمع مَعَهُ أَحَدٌ كَمَا اجْتَمَعَ مَعَهُ فِيهَا، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ إِلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، أَوْ مَنْ هو معذور لعجزه عن الخروج، أو هُوَ مُنَافِقٌ، وَتَخَلَّفَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تِيب عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَانَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، بَلْ كَانَ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ أَضْعَفَ من الاستخلافات المعتادة منه.
وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَقِيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ كُلُّ اسْتِخْلَافٍ قَبْلَ هَذِهِ يَكُونُ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِمَّنِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ عَلِيًّا. فَلِهَذَا خَرَجَ إِلَيْهِ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْكِي، وَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ والصبيان؟
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ كَاسْتِخْلَافِ هَارُونَ، لِأَنَّ الْعَسْكَرَ كَانَ مَعَ هَارُونَ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مُوسَى وَحْدَهُ.
وَأَمَّا اسْتِخْلَافُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - فجميع العسكر كان معه، وَلَمْ يُخَلَّف بِالْمَدِينَةِ - غَيْرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَّا معذورٌ أَوْ عاصٍ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: ((هَذَا بِمَنْزِلَةِ هَذَا، وَهَذَا مِثْلُ هَذَا)) هُوَ كَتَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ. وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا دلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْأُسَارَى لَمَّا اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَشَارَ بِالْفِدَاءِ، وَاسْتَشَارَ عُمَرَ، فَأَشَارَ بِالْقَتْلِ. قَالَ: ((سَأُخْبِرُكُمْ عَنْ صَاحِبَيْكُمْ. مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (?) ، وَمَثَلُ عِيسَى إِذْ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (?) . وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إِذْ قَالَ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اْلأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (?) ، وَمَثَلُ مُوسَى إِذْ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ اْلأَلِيمَ} (?) (?) .
فقوله هذا: مثلك مثل إِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى، وَلِهَذَا: مِثْلُ نُوحٍ وَمُوسَى - أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ - أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؛ فَإِنَّ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَعْظَمُ من