وفي هذا التاريخ استشهد سيف الدين أخو عز الدين جاولي في عفربلا كبسته فرنج حصن كوكب آخر ليلة من شوال وكان محمود السيرة منتبه الغريرة طاهر الذيل من الدرن ظاهر الميل إلى الأثر الحسن وكان قد تخلف من الحصون التي لم تملك حصناً كوكب وصفد وإنما طال أمد فتحهما لأن في كوكب جمهرة الإستبار وفي صفد جمهرة الداوية فرأى السلطان الحاجة في فتحهما إلى المطاولة والمحاجة من غريمهما بالمماطلة فوكل بهما أميرين أمينين فأصلت على أشقياء صفد سيف الدين اللصتي مسعود ورأى أن يوكل بكوكب غير محمود وكلاهما استشهد وحكم مراد الله غير مردود فأما محمود فإنه أقام في حصن عفر بلا وهو قريب من حصن كوكب ونغص على المقيمين فيه المطعم والمشرب وضيق عليهم حتى ضاق خناقهم وحاق إرهاقهم وآن أن ينصال أرماقهم فدخل الشتاء واعتل الهواء واغتر محمود بجمود القوم وخمودهم وترك النوم واشتغل بعادته في حصنه ولما كان آخر ليلة من شوال وهي ليلة راعدة بارقة خلا محمود خلاله المحمودة وسهر وحرض إلى السحر وهو في غرة في غار الغير وأخل أصحابه الاحتراس ومالوا ((فغلبهم النعاس)) فما استيقظوا إلا وفرنج كوكب عليهم باركة وللبنة حياتهم هاتكة فمازالوا يدافعون عن أنفسهم حتى استشهدوا ونقل الفرنج إلى كوكب ما وجدوا من عدة ومتاع وسلاح وكراع. ووافق نعيه رحيل السلطان من صور فتقدم إلى صارم الدين قايماز النجمى أن يرابط كوكب في خمسمائة فارس ولم يزل عليها منيخا حتى تسلمنا الموضع في أواخر سنة أربع على ما سيأتي ذكره.
وفي هذه السنة كان فتح حصن هونين أيام مقامنا على حصار صور وذلك أنه لما فتحت تبنين امتنعت هونين فوكل بها من الأمراء من رابطها وصابرها ولم يزل مقاتلا لها حتى راسلوا في طلب الأمان وتسليم المكان وجاء الخبر إلى السلطان فأمر الأمير بدر الدين دلدروم الياروقي في التوجه إلى هناك وخرج الفرنج منها آمنين والحمد لله رب العالمين.
قال: وأقام السلطان بظاهر عكا في سرادقه ناظرا في غاية حقوق الدين وحماية حقايقه واتفقت في تلك الليالي رياح مختلفة وعواصف مرجفة وكان الملك الأفضل في برج الداوية مقيما فسكن السلطان بالقلعة في محل الرفه والرفعة واستقر بها إلى أن دخلت السنة الأخرى ورتب الأمير عز الدين جرديك واليا وأعاد به عاطل الولاية حاليا وإنما عول عليه لنزاهته ونباهته فسدد المختل وشفى المعتل وأقام السياسة وأدام الحراسة ووقف دار الإسبتارية نصفين نصفاً على المتصوفة ونصفاً على المتفقهة وأهل المعرفة من الطائفتين ووقف دار الأسقف إلى جمال الدين بن أبي النجيب المتولي بها أمور الشريعة وأدت الحال بتفريق رياضها الوسيعة.
قال: كان أيام حصار صور قد فرق أمولاًُ كثيرة على الولاة في البلاد لجمع الرجال فلما قضى الله بالارتحال ذكر بتلك الأموال فأضرب عن ذكرها ولم يخرج أمره في أمرها وكان والي أعمال عكا حينئذ شمس الدين علي بكريسان وقد سير إليه ألف دينار قبل الرحيل من صور بأيام فلما حم الرحيل كوتب برد المال فقلت للسلطان: أنه من الكماة الكفاه فأنعم عليه بما عنده فلم يعد لذكره بعده واحتسب تلك الأموال للآخرة ذخراً ولم ير لما جبره من كنز إنفاق كسرا.