فجورهم وظلمهم إلا بموافقة لهم، أو سكوته عنهم، فإن فعل سَلِمَ مِنْ شَرِّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابتداء لو أنكر عليهم، وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُهَانَ على يد غيرهم. فالحزم كل الحزم: الأخذ بما قالته عائشة رضي الله عنها لمعاوية: مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ، رَأَى هَذَا كَثِيرًا، فيمن يعين الرؤساء وأهل البدع هربا من عقوبتهم، فمن وقاه الله شر نفسه، امتنع من الموافقة على المحرم، وصبر على عداوتهم، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كما كانت للرسل لمن ابتلي من العلماء وغيرهم. ولما كان الألم لا مخلص مِنْهُ الْبَتَّةَ، عَزَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنِ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرِّ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] (?) . فضرب لهذا الألم المنقطع أجلا وهو يوم لقائه، فيلتذ العبد أعظم لذة بما تحمل من الألم لأجله، وأكد هذا العزاء برجاء اللقاء؛ ليحمل العبد اشتياقه إلى ربه على تحمل الألم العاجل، بل ربما غيبه الشوق عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ الشَّوْقَ إِلَى لقائه، وشوقه من أعظم النعم، وَلَكِنْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السَّبَبُ الَّذِي تُنَالُ بِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الأقوال، عليم بتلك الأعمال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] (?) فإذا فاقت العبد نعمة، فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] (?) . ثُمَّ عَزَّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ، وَهُوَ إنما جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم، وأنه غني عن العالمين، فمصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا له سُبْحَانَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه يجعل فتنة الناس - أي أذاهم له ونيلهم إياه بالألم الذي لا بد منه - كعذاب الله الذي فر منه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015