{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53] (?) . فعزى الله سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِمَنْ تقدمه، وَعَزَّى أَتْبَاعَهُ بِقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] (?) وَقَوْلِهِ: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]-إلى قوله -: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 10] (?) . فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمِ الرُّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقولوا ذلك، بل يستمر على السيئات، فمن قال: آمنا، فتنه ربه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليبين الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ: آمَنَّا، فلا يحسب أنه يفوت الله ويسبقه، فمن آمن بالرسل، عاداه أعداؤهم، وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة. فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلِّ نَفْسٍ، لكن المؤمن يحصل له الألم ابْتِدَاءً، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، والمعرض تَحْصُلُ لَهُ اللَّذَّةُ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الْأَلَمِ الدَّائِمِ، وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ، أَنْ يُمَكَّنَ أَوْ يُبْتَلَى؟ فَقَالَ: لا يمكن حتى يبتلى. والله عز وجل ابتلى أولي العزم من رسله، فَلَمَّا صَبَرُوا مَكَّنَهُمْ، فَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنَ الْأَلَمِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ، فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا عظيما مستمرا بألم منقطع يسير، وأسفههم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم المستمر العظيم. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا؟ قِيلَ: الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ، والنَّفْسُ موكلة بالعاجل {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21] (?) {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان: 27] (?) . وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النَّاسِ، ولهم إرادات يطلبون منه موافقتهم عليها، فإن لم يفعل آذَوْهُ وَعَذَّبُوهُ، وَإِنْ وَافَقَهُمْ حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ، تَارَةً مِنْهُمْ، وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلَّ بَيْنَ قَوْمٍ فُجَّارٍ ظلمة لا يتمكنون من