تكلم الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى عن أثر التثبيط في خنق المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها وإبداعهم، وهو يقصد بالمثبطين هنا بعض أبناء العائلات التي احتكرت الوظائف العلمية، فكانوا يخشون أن تتحول عنهم إلى غيرهم، فكلما رأوا طالب علم مجد ونابغة من غير هذه العائلات يخذلونه ويثبطونه إلى أن يترك طلب العلم، لكي يبقى العلم حكراً على هذه العائلات وهذه الأسر.
يقول الشيخ: إن الشيخ محمد أمين بن عابدين لما نشأ، وآنس المثبطون منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد، والعقل الراجح؛ خافوا منه، فذهبوا يقنعون أباه -وكان أبوه تاجراً- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به طريق العلم، وجعلوا يكلمونه ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلطائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فثبت الوالد، فكان من هذا الولد المبارك ابن عابدين صاحب الحاشية، وهو أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي.
يقول الشيخ: بل أرادوا أن يصرفوا عن العلم أستاذنا العلامة محمد بن كرد علي -وهذا إمام من أئمة السلفية الكبار- فبعثوا إليه بشقيقين من آل فلان، شقيقان قد ماتا فلست أسميهما، على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالباً، صرفوهم عن العلم إلى الاشتغال بالدنيا لهذا السبب، فما زالا بأبيه ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع ولا منه فائدة، يلحان عليه ويلازمانه حتى ضجر فصرفهما، فننبغ ولده هذا الأستاذ كرد علي حتى صار صاحب النهضة الفكرية في الشام، وقائدها، ووزير معارف سوريا الأسبق، ومفخرتها، والذي من مصنفاته: خطب الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية، والمقتبس، ومن مصنفاته: المجمع العلمي العربي بدمشق، ومن مصنفاته: هؤلاء الشعراء والكتاب من الشباب.
ولعل في الناس كثير كانوا -لولا الاحتقار والتثبيط- كـ ابن عابدين وكـ كرد علي.
وها هو العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى مات وما له مصنف على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه، وسبب ذلك: أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه؛ فسخر منه، وأنبه، وقال له: أيها المغرور! أبلغ من قدرك أن تصنف؟ وأنت وأنت -يعيره- ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفئة، فكانت هي أول مصنفات العلامة سليم البخاري وآخرها! يقول: وأول من سن سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله، نسبة إلى الجزائر في العراق، الفيلسوف المؤرخ الجدلي الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ محمد كردي علي بيك كان من تلامذته، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب - محب الدين الخطيب خال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله- ومما كتب الشيخ طاهر الجزائري في ذم التثبيط رحمه الله يقول: وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل، وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم، ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم ير أحداً من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبيرة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها؛ ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم.
وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، وهذا من السنة، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رآهم عند بئر زمزم يصبون الماء قال لهم: (هكذا فاعملوا بارك الله لكم، وجزاكم الله خيراً) أو كما قال، والشاهد التشجيع والثناء على من يفعل خيراً بالخير، وكان الشيخ لا يثني أحداً عن غاية صالحة؛ حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له: إن هذا غير ممكن -انظر إلى هذا الأسلوب التربوي- لا تقل له: هذا غير ممكن؛ فتفل عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه، وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته.