كان الإمام أحمد دائماً يمدح بقي بن مخلد أمام باقي الحاضرين، ويقول: هذا يقع عليه اسم طالب العلم، أي أنه يستحق أن يتشرف بلقب طالب علم؛ لأن قصة بقي بن مخلد في غاية الروعة، رحل من الأندلس إلى بغداد ليسمع مباشرة من الإمام أحمد رحمه الله، وكان الإمام أحمد محددة إقامته في تلك الفترة، وممنوع من مخالطة الناس، فاحتال بعد الاتفاق مع الإمام أحمد على أن يرتدي ملابس المتسولين، ويأتي كل ليلة ليسأل الصدقة، ثم يدخل في الممر كأنه ينتظر أن يؤتى له بالطعام أو الصدقة، ففي أثناء تلك الفترة يخرج إليه الإمام أحمد ويحدثه كل يوم بحديث، فلما انقشعت المحنة كان الإمام أحمد يعظمه جداً، وكان يقول في مجلسه: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.
وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى يفعل ذلك -أي: التشجيع- مع الوراق، فقد كان يملي عليه الإمام الأحاديث وهو يكتب في الورق، فكان يكثر جداً من الإملاء، فيخشى أن يمل الرجل رغم أنه كان يأخذ أجراً على هذا، فكان يلاطفه ويواسيه ويشجعه بالاستمرار كي لا يمل، يقول الوراق: (فأملى عليّ يوماً -أي: الإمام البخاري - أحاديث كثيرة فخاف مللي، فقال: طب نفساً فإن أهل الملاهي مع ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعاتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، يقول له: طب نفساً، وهذا تشجيع وثناء عليه، وتسلية له ومواساة على هذه المشقة التي يتحملها، طب نفساً، فإن أهل الملاهي مع ملاهيهم، ذهب كل مع من يحب، أهل الملاهي يجلسون مع الملاهي، وأهل الصناعات في صناعاتهم في طلب الدنيا، والتجار في تجاراتهم، وأنت لست مع الملاهي ولا مع الصناع ولا مع التجار، وإنما أنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا فـ البخاري علم أن التشجيع والثناء والمواساة والمدح يجعل هذا الرجل ينجو من الملل أو الضجر، ويتلقى هذه التكاليف بصدر رحب.
الإمام مالك رحمه الله تعالى كتب رسالة إلى إمام مصر الليث بن سعد، فيها الثناء والمدح له، ومما قال فيها: وأنت في إمامتك، وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك.
فالإمام مالك يهيئ الليث بالثناء عليه ومدحه قبل أن ينصحه؛ لأنه نصحه بعد ذلك، وبقصد النصيحة دخل من هذا المدخل.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى دخل في يوم مطير على تلاميذه، وكان يخشى عليهم من خوف الملل أو الضجر من طول الوقت، فأقبل أبو حنيفة رحمه الله تعالى عليهم بوجه بشوش وقال لهم: أنتم مسار قلبي وجلاء حزني.
ودخل الإمام الشافعي يوماً على الإمام أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله! كنت اليوم مع أهل العراق في مسألة كذا وكذا، كنت أناقشهم أو أناظرهم في مسألة فقهية فلو كان معي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إليه أحمد ثلاثة أحاديث، فقال: جزاك الله خيراً، مع أن الشافعي شيخ الإمام أحمد، لكنه مع ذلك أتاه وطلب منه هذه الأحاديث، وأظهر الافتقار لما معه من العلم والحديث.
حتى أهل الخير من أهل الهمة مهما بلغ أحدهم من المنزلة يحتاجون إلى التشجيع ليفعل فيهم أثره.
مر رجل مع صاحب له بجوار بيت أبي حنيفة ليلاً، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: هذا أبو حنيفة لا يكاد ينام من الليل، يعني: يقوم الليل كله، فقال أبو حنيفة لنفسه: والله لا يُتحدث عني بما لا أفعل، فمن ساعتها بدأ يواظب على قيام معظم الليل رضي الله تعالى عنه.
كان رجل من أهل الأذى للناس، وكان له منصب معين يتمكن منه من أذية الناس، فقابله شخص بالثناء عليه، وبأنه سمع شكره مستفيضاً، ووصفه بالجميل، ومدحه بالرفق؛ فكان ذلك سبباً إلى أن منع ذلك الفاسق عن كثير من شره وأذاه للناس، فممكن أن تمدح الظالم للحد من شره، لكن تمدحه بصدق دون أن تغره بما هو فيه من ظلم فيتمادى في ظلم الناس، ودون أن تداهنه وتكذب في مدحه، لكن ممكن أن تأتي بشيء من الخير الذي تراه فيه، كأن تقول له: أنت من أسرة طيبة، وأناس أفاضل معروفون بحب الخير، فهذا ليس كذباً، إن كان هو بالفعل هكذا، لكن هو الفرع الخبيث في هذه الشجرة، فالشر ينقمع في نفسه، ويكف عن أذية الناس.
فالبيئة المشجعة حول الإنسان دائماً ما تحفزه على المزيد من الإنتاج.