للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياسا مستمرا، فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 1 فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، وقد قال -تعالى-: {مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا} 2 أي من خير وشر، وهذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله"3 الحديث.
وكانت الشياطين في زمن سليمان بن داود -عليهما السلام- يدعون علم الغيب، فلما مات سليمان لم يعلموا بموته إلا بعد سنة، وهم في تلك السنة دائبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب، قال -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَا دَابَّةُ الأَرْضِ تَاكُلُ مِنْسَأَتَهُ} 4 إلى قوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 5.
ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر: "أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار فيقول: أصحابي أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" 6. فكيف يقال: إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر، وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله؟
[لا دلالة في حديث "يئس الشيطان" على عدم وقوع الشرك]
فتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب؛ ويوضح ذلك أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره، ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده.
لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك لقوله -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 7 أي: لا تطيعوه، فعبادته طاعته.
يوضح ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ