قال المؤلف حفظه الله تعالى: [القاعدة العاشرة: المراء في الدين مذموم: والمجادلة بالحسنى مشروعة، وما صح النهي عن الخوض فيه وجب امتثال ذلك، ويجب الإمساك عن الخوض فيما لا علم للمسلم به، وتفويض علم ذلك إلى عالمه سبحانه].
هذه من القواعد السلوكية؛ لأنه كما أن العقيدة والدين في الأمور القلبية كذلك هي في أمور الحلال والحرام، وفي التعامل مع الخلق، ومسألة التعامل مع الخلق هي المحك والاختبار لكثير من المسلمين اليوم؛ لأنه قد يدعي المسلم أنه يعرف الاعتقاد ويعلم أشياء كثيرة في الدين، ويباشر أعمال الإسلام الظاهرة، لكن هذا كله لا يعطينا مصداقية تمسك المسلم بدينه بقدر ما يعطينا تعامله مع الناس، هل هو على مقتضى العقيدة والشرع؟ ومن أعظم أبواب التعامل مع الخلق ما يتعلق بالحوار والمواقف تجاه الآخرين، والتعامل مع المخالف أو التعامل مع المخطئ في نصحه وبيان الحق له وإقامة الحجة عليه، وأن يكون بالنصيحة والمجادلة بالحسنى.
وهنا ينبغي أن يعرف المسلم أن المراء في الدين مذموم بمقتضى الكتاب والسنة، والمراء صنوف كثيرة أهمها وأخطرها: الجدال بغير حق وبغير قصد الحق، والانتصار للرأي وللمذهب وللقول، والتشفي من المخالف، والتمادي وهو عدم الوقوف على الدليل، فالمسلم قد يجادل ويقارع الحجة بالحجة والدليل بالدليل يسأل فيجاب، لكن إذا تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك بأن يعيد السؤال لغير حاجة، أو يلف بالقضية والشبهة مرة أخرى، كأن يصر على قوله ولا يكتفي بمجرد أخذ الدليل أو الاستفهام من الدليل، بل يزيد مرة أخرى ويماري ويكرر الكلام لغير حاجة فهذا يسمى المراء.
إذاً: الكلام للحاجة بالضوابط الشرعية هذه مجادلة بالحسنى، أما ما زاد عن الحاجة وما وقع فيما نهى الله عنه من الانتصار للباطل والانتصار للهوى وعدم التوقف عند الحجة والدليل؛ فإن هذا يعد من الأمور المذمومة وهو المراء في الدين، أما المجادلة بالحسنى فهي مشروعة بشروطها.
والمجادلة: هي النصيحة في الدين، فتبين للآخر وجه الدليل وتفهمه ما لم يفهمه إذا كنت تقدر، ويكون ذلك على مقتضى الكتاب والسنة، ويكون أيضاً بقصد حسن، أن تقصد الحق وتتجرد من الهوى والرأي المسبق، وتتمثل قاعدة الإمام الشافعي رحمه الله الذهبية العظيمة وهي قوله: والله ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يجري الله الحق على لسانه.
فأقسم أنه يتمنى أن يجري الله الحق على لسان خصمه؛ لأنه طالب حق يتمنى من الله أن ينقذه من رأي أو اجتهاد خاطئ، وهكذا يجب أن تكون المجادلة بالكتاب والسنة، وبقصد الحق والتجرد من الهوى، والتسليم والإذعان للدليل، فإذا قال خصمك: قال الله عز وجل وفهمت قول الله وعرفت أنه حجة في هذا الباب فتتوقف وتقول: آمنا بالله، وإذا قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءك الدليل وفهمته وأنه حجة في هذا الأمر فتقول: على العين والرأس، مكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبي وبصري وسمعي لا أحيد عنه.
ومن شروط المجادلة بالحسنى: ألا تتعصب ولا تنتصر لنفسك، أو تحرص على هزيمة خصمك وتتشفى كما يفعل بعض المجادلين، وإذا رأيت من خصمك استعداداً لقبول الحق فشجعه على ذلك، ولا تشعره بأنك انتصرت فتنتفخ وتنتفش، فربما يؤدي ذلك إلى رده للحق وحجبه عن قبول الحق، فليتق الله المجادل، وليلتزم أدب الحوار ويتكلم برفق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، والرفق يشمل الرفق في العبارة، والرفق في التعامل، والرفق مع الخصم، والرفق خلال عرض الحجة، والرفق بالصيغة والأسلوب، وبلا رفع الصوت أو اللجاجة أو التكرار من غير حاجة، وعليك بالحلم والتأدب، والنصيحة سواء للمسلم أو لغير المسلم، يكون رائدك النصيحة والحرص على الهداية، ثم تاج ذلك كله أن تكون المجادلة بعلم وفقه، فلا تجادل وأنت لا تعلم، وبعض الناس تأخذهم الغيرة في الدفاع عن الدين فيجادلوا بغير علم، ويخاصموا المخالفين بغير حجة ولا فقه ولا عمق، فأحياناً يقولون على الله بغير علم ويوقعون الحق في حرج، ويقولون أشياء ليست حقاً ويظنون أنها حق؛ لأنهم ليس عندهم فقه في الدين، فيستفزهم الخصم فيقعون في المهاترات، وهذا كله يقع لأنهم ما جادلوا بعلم، ظناً منهم أنه لابد أن يدافعوا عن الدين غيرة، فمن شرط الدفاع عن الدين: أن تكون على علم وبصيرة، والله عز وجل نهاك أن تجادل بلا علم، قال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، أما أن يهلك بعض الناس ويقعوا في شبهات وبدع فالله يتولاهم وليس عليك هداهم، وثق أن الله عز وجل سيسخر من أهل العلم والفقه من يقوم بالحجة، لكنك يجب أن تصبر وتهيئ نفسك.
وأخيراً: يجب أن يكون المسلم متجرداً لا عن الحق كما يفهم كثير من الكتاب والباحثين الذين ظنوا أن التجرد يكون عن الحق، فهذا لا يجوز.
وبعض الناس يظن التجرد ألا تكون له عقيدة ولا رأي وهذا خطير،