فإن قيل: فقد تقدم أيضاً أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق، فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه، فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيراً، فقسم العبد إذا ذاهب، ولم يبق إلا قسم واحد.
فالجواب: أن هذا القسم الواحد هو المنقسم؛ لأن ما هو حق للعبد إما يثبت كونه حقاً له بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقاً لذلك بحكم الأصل، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطاً في هذا الكتاب، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق، فأما ما هو لله صرفاً فلا مقال فيه للعبد، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار.
وقد ظهر بما تقدم آنفاً تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق، فله إسقاطها، وله الاعتياض منها، والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق الله وما هو حق للعباد، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب، والحمد لله) .
ومن هنا يتبين لنا أن حياة الإنسان، وأن أجزاء النفس الآدمية هي جميعها من حقوق الله تعالى، وأن ما كان حقاً لله تعالى فلا يملك فيه الإنسان تصرفاً، بيعاً أو شراء أو تبرعاً، أو بعبارة أخرى لا يجري فيه عفو ولا صلح ولا إبراء ولا بيع ولا شراء ولا تبرع..) .