وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه، وحرم شرب الخمر لما فيه تفويت مصلحة العقل برهة، فما ظنك بتفويته جملة، وحجر على مبذر المال، ونهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة.
لأنا نجيب بأن إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به فلا يصح للعبد إسقاطه، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات بسبب ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه، فهنالك يتمحض حق العبد، إذ ما وقع مما لا يمكن رفعه، فله الخيرة فيمن تعدى عليه؛ لأنه قد صار حقاً مستوفى في الغير كدين من الديون، فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده، فإن حق الله قد فات ولا جبر له، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه، وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع فلا، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب.
وأما تحريم الحلال وتحليل الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى؛ لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد، فليس لهم فيها تحكم؛ إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح، تحلل به أو تحرم، فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب، فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة.