يقول القرافي: وكذلك تحريمه تعالى المسكرات صوناً لمصلحة عقل العبد عليه، وحرم السرقة صوناً لماله، والزنا صوناً لنسبه، والقذف صوناً لعرضه، والجرح صوناً لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضا، ولم ينفذ إسقاطه، فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها، مما هو مشتمل على مصالح العباد حق الله تعالى؛ لأنها لا تسقط بالإسقاط، وهي مشتملة على حقوق العباد، لما فيها مصالحهم، ودرء مفاسدهم،.. (?) ولقد قرر الشاطبي في موافقاته (?) هذا المعنى بصورة باتة فقال: (كل ما كان من حقوق الله فلا خيرة فيه للمكلف على حال، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة.

أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها، كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو حق الغير من العباد، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزن جميعاً لا يصح إسقاط حق الله فيها البتة، فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت، أو صلاة من الصلوات المفروضات، أو زكاة أو صوماً أو حجا، أو غير ذلك، لم يكن له ذلك، وبقي مطلوباً بها أبداً حتى يتفصَّى عنه عهدتها، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلاً من غير ذكاة، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق أو الربا أو سائر البيوع الفاسدة، أو إسقاط حد الزنا أو الخمر أو الحرابة أو الأخذ بالغرم والاعتداء على الغير بمجرد الدعوى عليه وأشباه ذلك، لم يصح شيء منه، وهو ظاهر جداً في مجموع الشريعة. حتى إذا كان الحكم دائراً بين حق الله وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله، فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلاً: إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه، فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا، فإن قلت: لا، وهو الفقه، كان نقضاً لما أصلت؛ لأنه حقه، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك، وإن قلت: نعم خالفت الشرع؛ إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضواً من أعضائه ولا مالا من ماله، فقد قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (?) ثم توعد عليه وقال: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015