والإنسان وأجزاؤه لا يدخل تحت ملك الإنسان فلا يملك نفسه، ولا يملكه غيره، وقد فهم بعض الباحثين من قول صاحب المغني: (وحرم بيع العضو المقطوع منه لأنه لا نفع فيه) تقدم النص آنفاً: أنه يريد مطلق النفع، وقال: إن الفقهاء لو رأوا نفع نقل الأعضاء كما في العصر الحديث لوافقوا على بيعها، وجعل ذلك أساساً لقوله بجواز بيع الأعضاء الآدمية.
وهذا الفهم مجاف للصواب؛ لأن المحرم مهدر النفع شرعاً، ولا يعتمد بنفعه، وإلا فكل ما في الكون من المحرمات فيها نفع، وفيها ضرر، ولكن الشرع أهدر ما فيها من نفع ولم يعتد به رغم وجوده عقلاً وحسا.
انظر إلى الخمر والميسر، يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (?) ومع ذلك حرم الشرع شرب الخمر وبيعها والانتفاع بها، (وحرم الميسر ما قد يكون فيه من منافع) ويقول الشاطبي في موافقاته: جـ3 ص 120.
(ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في المعاوضات لا يصح العقد عليه، وما فيه منفعة أو منافع لا تخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون جميعها حراماً أن ينتفع بها، فلا إشكال في أنه جار مجرى ما لا منفعة فيه البتة) .
والثاني: أن يكون جميعها حلالا، فلا إشكال في صحة العقد به وعليه ...
والثالث: أن يكون بعض المنافع حلالا، وبعضها حراماً، فههنا معظم نظر المسألة، ثم يقول ص 122: (وما سوى ذلك مما يقصد بالبيع ولا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له (وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم في شحم الميتة: إنه تطلى به السفن ويستصبح به الناس، فأورد ما دل على منع البيع، ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات؛ لأن المقصود وهو الأكل محرم، وقال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها)) وقال في الخمر: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)) .
(ولا شك أن الإنسان حرام دمه، بنصوص شرعية، وحرام بيعه بنصوص شرعية أيضاً، كما سبق أن ذكرنا ـ فلا عبرة بما في جميع أعضائه من نفع إطلاقاً؛ لأن ما حرم كله حرم بعضه؛ إذ لا عبرة بأي نفع قد أهدره الشرع؛ لأن الله تعالى وضع لنا من الضوابط لما يحل ويحرم ما يحقق مصالح الناس في عاجلهم وآجلهم، ومنافعهم الحقيقة لا منافعهم الوهمية أو الظنية.
فمنافع الإنسان منها ما أجاز الشرع الحكيم وورد العقد عليه، كعقد اجارة الأشخاص، وحينئذ وضع الضوابط اللازمة لصحة هذا العقد. ومنها ما لم يجز الشرع وورد العقد عليه، ولا التصرف فيه، كبيع الآدمي الحر، أو بيع جزء منه ... ، وحينئذ يكون العقد عليه باطلاً، لا ينتج آثاراً، فضلاً عن الإثم الواقع على من يتصرف فيما لم يبح الشرع التصرف فيه.