وكثير من الديون وخصوصًا ديون الدولة لا نستطيع أن نقول إنها غير مقدورة التسليم، السندات التي تصدرها الدولة من غير فائدة لا نستطيع أن نمنعها بحجة أنها غير مقدورة التسليم، لكن هي مقدورة التسليم. ثم إن بيع الدين قد تدعو إليه الحاجة، وقد بينها الدكتور القري في بحثه، وفيه مصلحة ظاهرة للمتعاقدين فلا يصح التضييق عليهم بمنعه، وليس فيما ذهبت إليه خروج على آراء الفقهاء، فقد رأينا اختلافهم في بيع الدين النقد، والأكثر على الجواز.

أما دعوى الإجماع على منع بيع الدين بالدين فغير مسلمة على إطلاقها، ولعل الصور المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما يترتب عليها ربا كأن تكون له عشرة ملايين من الجنيهات السودانية على آخر فيبيعها له بخمسة آلاف من الدولارات يدفعها له بعد شهر، وهذا هو الذي يسميه المالكية فسخ الدين في الدين. المالكية لهم تقسيم لبيع الدين بالدين، التقسيم الأول فسخ الدين في الدين، هذه الصورة التي ذكرتها لكم وهي أشدها منعًا، وقد تكون بصورة معروفة لدينا الآن ومعمول بها (يحل الدين فيؤجله بزيادة) ، هذا فسخ الدين في الدين لا خلاف في منعه.

الصورة الثانية يطلق عليها المالكية: بيع الدين بالدين، ويصلون بها بيعه لغير من عليه الدين. خاصة ببيع لغير من عليه الدين وهي أخف من الصورة الأولى والتي هي فسخ الدين في الدين. ويجوزون في هذه الصورة الثانية – وهذا رد على الشيخ صالح – بيع الدين بالدين والذي هو لغير المدين، المالكية يمنعونها لكن يجوزون بيع الدين بالدين بمعيّن يتأخر ضبطه، كأن يكون له كذا ألف دين فيبيعه لآخر بسيارة معينة يتأخر قبضها شهرًا أو شهرين، هذا جوزوه المالكية في هذه الصورة لكن لم يجوزوه في فسخ الدين في الدين، الذي هو بيع المدين نفسه، جوز في بيع الدين لغير المدين. وبناءً عليها إذا كانت تجوز بمعين يتأخر قبضه فمن باب أولى تجوز بمعين يتقدم قبضه ويقبض في الحال، وهذا هو ما نقله عني الشيخ القري واعترض عليه الشيخ صالح، وهو مذهب المالكية لا خلاف في هذا. له دين يبيعه بسلعة (سيارة) ، لا مانع من هذا.

الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما ترتب عليها ربا – الصورة التي ذكرتها – أو ما ترتب عليها بيع الإنسان ما لا يملك، وهذه هي ابتداء الدين بالدين، وهذا هو النوع الثالث عند المالكية.

النوع الأول: في بيع الدين بالدين هو فسخ الدين في الدين.

النوع الثاني: بيع الدين بالدين أي لغير من عليه الدين.

النوع الثالث: ابتداء الدين بالدين هذا في بيع الدين بالدين وإن كان هي في الواقع ليست بيع دين بدين في حال ابتداء الدين بالدين، وهذا واضح في السلم، ولذلك يجوز فيه تقسيم رأس المال لئلا يكون من بيع الدين بالدين، يعني نصدر فيه مؤجل، فإذا تأجل الثمن تأجل البدلان، وهذا هو ابتداء الدين بالدين وهذه الصورة وغيرها لا تصح إلا على وجه السلم، العلة في المنع هنا هو أن البائع يبيع ما لا يملك لأن رب السلم يبيع السلعة وهو لا يملكها، وربما تكون معدومة، وهذا لا يجوز إلا على وجه السلم. هذه هي العلة التي من أجلها منع ابتداء الدين بالدين، وليست العلة ما ذكره ابن القيم في تقسيمه لبيع الدين بالدين: أنه ليس فيه مصلحة وأنه شغل ذمته، لا. هذا هو رأيي في بيع الدين.

نأتي إلى التطبيقات الموجودة التي ذكرها الباحثون وهي بيع السندات وبيع الكمبيالات. السندات معروف أنه إذا كانت بفائدة هذا لا كلام فيه، لكن كلامنا في السندات بغير فائدة، وقد استبعد بعضهم أن تصدر هذه السندات لمن؟ يمكن أن تصدر في بلد إسلامي يبتغي من يشتري هذا السند ثواب الآخرة، وهذا هو البديل لسندات الحكومة القرض، والذي يجب أن تبدأ به الدولة المسلمة، تبدأ بالقرض من غير فائدة، فلا مانع من أن تصدر سندات وهذه السندات تكون من غير فائدة ويقبل عليها الجمهور فتدخل في موضوعنا هي بيع الدين، صاحب السند يحتاج إلى نقود تسدد خلال سنة، فيحتاج بعد ستة أشهر إلى نقود ماذا يصنع؟ لا يوجد أحد يشتري منه بثمن الذي يشتري به.

هنا أنا طبقت مذهب المالكية وقلت: يجوز بيعه بمعين. لا يوجد مانع من أن أبيع هذا السند الذي قيمته كذا ألف بمعين، لا يمكن أن أبيعه بنقود ولا حتى بالمثل كما قال بعض الإخوة لأنه سوف يكون مؤجلا، قبض الدين مؤجلاً فلا يصح، لكن من الممكن أن أبيعه بسيارة أو منزل أو حسب ثمن السند، مهما كان ثمن السيارة أوالمنزل، لا حرج في هذا. وهذا هو رأيي في بيع جميع الأوراق المالية. الكمبيالات أيضًا يمكن أن يطبق عليها هذا. صاحب الكمبيالة إذا استعجل من الممكن أن يبيع بمعين.

نقطة بسيطة بعد أن بينت رأيي وإن كان هو كلام كثير لكن لا أريد أن آخذ أكثر مما أخذت.

الشيخ القاضي العثماني ذكر في بحثه ونسبه للمجمع موضوع ما إذا كان الموجودات فيها أعيان ونقد وحدد نسبة (51 %) إذا كانت الأعيان ونسبها إلى المجمع. لا أظن أن هذا وارد. المجمع قال: إذا كانت الأعيان هي الأغلبية، وترك التحديد، هذا، والمفروض أن تجتمع لجنة وتحدد بمَ تكون هذه الأغلبية؟ هل هي بـ (51 %) أو (75 %) أو (90 %) ؟ وأذكر أن البنك الإسلامي للتنمية عقد ندوة في هذا ولم يصل إلى رأي، فلا يصح أن نقول إذا كان في الشركة (51 %) منها أعيان والباقي كله نقود وديون يصح أن نبيع بأي ثمن؟ لا أرى هذا جائزا ً، لأن المجمع عندما قرر هذا كان في ذهنه أنه إذا كانت الغلبة للأعيان بحيث تكون النقود والديون تابعة يجوز بيعها بأي ثمن. فهل إذا كانت النقود والديون (49 %) نعتبرها للأعيان؟ لا أظن هذا مقبولًا فقهًا.

أكتفي بهذا. وشكرًا لكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015