فأما القسم الأول وهو بيع الدين بالنقد لمن عليه الدين فقد جوزه أكثر الفقهاء، والبحوث متفقة على هذا، وأما بيع الدين بالنقد لغير من عليه الدين – وهذا هو القسم الثاني – منعه أكثر الفقهاء، وهذا ما جاء أيضًا في كل البحوث. لكن البحوث لم تتعرض للعلة التي اختلف الفقهاء من أجلها في هذا. العلة هي الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم. ففي بيع الدين بالنقد – أي بالحال – لمن عليه الدين لا حاجة إلى التسليم لأن الدين في ذمة المدين فهو مسلم إليه، ولهذا اتفق جمهور الفقهاء على الجواز.

الصورة الثانية: بيع الدين بالنقد لغير المدين، هذه التي اعتبر الفقهاء فيها موضوع الغرر، وقال أكثرهم: إن في هذا غررًا يرجع إلى عدم القدرة على التسليم، وكل الذين منعوا هذه الصورة متفقون على هذه العلة بتعبيرات مختلفة وأوردتها في كتاب (الغرر) .

الصورة الثالثة، وهي: بيع الدين بالدين لمن عليه الدين.

والصورة الرابعة، وهي: بيع الدين بالدين لغير من عليه الدين.

هاتان الصورتان (الثالثة والرابعة) يجمعها أمر واحد هو بيع الدين بالدين، وهذا منعه جمهور الفقهاء إن لم نقل جميع الفقهاء حسب تعبيرات بعضهم ومنهم الإمام أحمد فحكى الإجماع على منع بيع الدين بالدين، وسبب المنع هذا ليس هو عدم القدرة على التسليم وإنما هو حديث (الكالئ بالكالئ) الذي تحدّث عنه الشيخ العثماني، ولكن الفقهاء مع تضعيف المحدِّثين بهذا الحديث، فإن الفقهاء أخذوا به واعتبروا التقبّل لهذا الحديث بالقبول تصحيح له كما حدث في بعض الأحاديث التي لم تصح ولكن تقبّلها الأئمة بالقبول.

هذه هي خلاصة آراء الفقهاء في هذه الأقسام الأربعة، وهذه الأقسام الأربعة هي التي تدخل فيما يجري عليه العمل وما نريد أن نطبّقه من سندات وكمبيالات. لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة.

الذين منعوا بيع الدين مطلقًا: ابن حزم لا يجيز بيع الدين في أي صورة من صوره.

ابن تيمية وابن القيم أجازا بيع الدين بالدين الذي منعه كل الفقهاء تقريبًا وحاصل الإجماع عليه، إلا في صورة واحدة هي: ابتداء الدين بالدين منعا هذه الصورة وعللاها بأن فيها شرط ذمتين من غير فائدة. وسأقول رأيي في هذا.

بعد ذلك أنتقل إلى بيان رأيي بناءً على هذه المقدمة. رأيي هو جواز بيع الدين مطلقًا. أعني سواء بيع للمدين أو لغير المدين بنقد أو بدين، وهذه هي الصور الأربعة، ما دام خاليًا من الربا ومن الغرر المفسد للعقد، لأنه لم يرد نص يعتد عليه في منع بيع الدين، وقد رأينا كلام المحدثين في بيع الكالئ بالكالئ. ودعوى عدم القدرة على التسليم في بيع الدين بالنقد لغير المدين دعوى غير مسلمة، لأن كلامنا في دين معترف به ممكن تسلّمه من المدين. وواضح أن الشروط التي وضعها المالكية الغرض منها أن تخرجنا من هذا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015