ولم يكن منشأ هذا التأويل البعيد إلا ما فهموه من منع العطف بين جملتين لم تتفقا في الخبرية والإنشائية، وهو أساس متداع فإنه- وإن قال جماعة من النحويين بالمنع من هذا العطف- منقوض بالشواهد الكثيرة التي تفيد الجواز، وإن تأول المانعون بعضها فإن غالبها يستعصي على التأويل، منها قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 125] ، فإنَّ "اتخذوا" إنشاء معطوف على "جعلنا"، وهو خبر وعطف عليه خبر آخر وهو "عهدنا"، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] ، وهو كما يظهر للجميع تضمن إنشائين وخبرين، فقد عطفت جملة {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 125] وهي خبر ,على جملة {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} وهي إنشاء، ثم عطف عليها جملة {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 125] وهي إنشاء، ثم جملة {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 125] وهي خبر؛ ومثله قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، فإن اختلاف الجملتين في ذلك واضح، وبهذا الذي قلناه قال جماعة من محققي النحويين، فقد ذكر الحافظ ابن حجر بأن سيبويه ومن تبعه من المحققين يجيزون ذلك ولهم شواهد كثيرة (?) ، ونسب الإمام محمد الطاهر بن عاشور القول بالجواز إلى المحققين (?) ، وممن قال به الإمام المفسر النحوي أبو حيان (?)
وحمل عليه عطف قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] على قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] ، واستشهد له بقول امرئ القيس:
وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
وقول الشاعر:
تناغي غزالا عند باب ابن عمر وكحل مآقيك الحسان بإثمد