وإذا كان قد تقرر عند الأئمة المجتهدين والفقهاء المحققين إن قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء، أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين، فإن طلاب تلك المصالح ومراعاتها يكون بالاعتماد على (نصوص الشريعة وأدلتها واستخدام العقل في استنباط أسرارها وأحكامها، ولا يصح بحال الابتعاد عن النصوص فإن النقل يتقدم متبوعا، ويتأخر العقل تابعا. فلا يسرح في مجال النظر إلا بقد ما يسرحه النقل. ولو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل لما كان للحد الذي حده النقل فائدة، ولصار غير مفيد وذلك في الشريعة باطل) . وقد تقرر لدى جهابذة الفقهاء إنه لا يحسن التضييق والتشديد فإن الدين يسر، (وإن العامة إذا توهمت أن الدين الصحيح لا يكون إلا مع المشقة والحرمان أخذها اليأس من الوفاء به على تلك الصورة التي رأتها عند المغالين فتركته) . فلا بد إذا من التوسط. وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يقدمون أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم الباطلة على وجه لا يخل بمصالحهم وهو التوسط.
ومن هذا الباب القول بمراعاة الخلاف فلا يحسن التزام مذهب بعينه في تقرير الأحكام، ولا الأخذ بقول أحد أو بفعله مهما بلغ من العلم، فيما يجد من قضايا إلا إذا عرضت أقواله وأفعاله على الشرع فوافقها، خصوصا بعد أن اتضحت الآراء وانكشفت العلل وظهرت المقاصد ووجدت المبررات للأخذ بمذهب آخر. فإذا وقعت مسألة في مذهب ما على خلاف ما في غيره من المذاهب الفقهية، وبعيدا عن قول آخر من أقوال أهل العلم، فإنه من الأجدى والأصلح تصحيح ما وقع وإمضاؤه عملا بالمذهب والقول المخالف إذا بانت صحته وقويت حجته ونهض دليله.
وقد يكون من الضروري أيضا للمجتهد أن ينظر في مآلات الأفعال فإن ذلك معتبر ومقصود للشارع لجواز أن يؤول الأمر إلى خلاف ما قصد به. (فقد يشرع الأمر لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة به تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما شرع لأجله، أو يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك) . فالواجب في مثل هذه الصور الاحتياط. وإنه لمجال صعب المورد للفقهاء والمجتهدين غير أنه مهم يتأكد التفطن له والأخذ به، حرصا على تحقيق مقاصد الشريعة، وحماية لمصالح الناس.