وكذلك الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب الاجتهاد، لم ينقل عن أحدهم منع العمل بمذهب غيره، بل كان كل منهم يقتدي خلف الآخر، مع اطلاعه على مخالفته له في الاجتهاد الظني، فدل هذا على أن المستفتي كان يأخذ بأقوال العلماء في مسألتين أو أكثر، ولا يقال: إنه لفق أو وصل إلى حقيقة لم يقل بها المفتون، وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين، بعضها في بعض بالنسبة إلى هذا المستفتي تداخلا غير مقصود، كتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب.

وأكثر من هذا، فإن القول بمنع التلفيق يؤدي إلى عدم جواز التقليد الذي أوجبوه على العوام – من ناحية المبدأ – وإن كان التقليد غالبا ليس تلفيقا، ويناقض المبدأ القائل بأن اختلاف الأئمة رحمة للأمة، ويعارض الأساس الذي قامت عليه الشريعة من اليسر والسماحة، ورفع الحرج ودفع المشقة.

وأما الاستدلال بطريقة إثبات العكس بعد افتراض صحة قولهم بمنع التليفق والتسليم بما قالوا، فيظهر مما قرره أولئك العلماء، وهو أنه لا يجب التزام مذهب معين في جميع المسائل، ومن لم يكن ملتزما مذهبا معينا، جاز له التلفيق، وإلا أدى الأمر إلى بطلان عبادات العوام، إذ لا يكاد أحدنا يجد عاميا يفعل عبادة موافقة لمذهب معين.

وأما اشتراطهم ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب إذا قلد أحدهما مذهبا، أو ترك مذهبه في مسألة، فهو أمر عسير، سواء في العبادات أو المعاملات، وهو يتنافى مع سماحة الشريحة ويسرها ومسايرتها لمصالح الناس.

فمن توضأ مثلاً، ومسح بعض رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح فإذا مس عضوه (ذكره) بعدئذ مقلدا أبا حنيفة، جاز له الصلاة؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح بالاتفاق؛ لأن لمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة،فإذا قلده شخص في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وحينئذ لا يقال: إن الوضوء غير صحيح لبطلانه في كلا المذهبين؛ لأن المسألتين قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر بعد اللمس بتقليد أبي حنيفة، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة، لا في ابتدائها.

وأما ما ادعاه بعض الحنفية (?) من قيام الإجماع على منع التلفيق، فهو إما باعتبار اتفاق أهل المذهب، أو باعتبار الأكثر والغالب، أو باعتبار السماع، أو بالنسبة للظن، إذ لو كانت المسألة مجمعا عليها لنص فقهاء المذاهب الأخرى على الإجماع؛ لأن المجمع عليه لابد من أن يكون بين أهله مشهورًا ظاهرا منصوصًا عليه، فلا يكفي السكوت والاحتمال. ولا أدل على عدم الإجماع من مخالفة كثير من العلماء المتأخرين صراحة (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015