تفاوت المشاق:
كل هذه الأمثلة للأعذار فيها مشقة تبيح التخفيف أو الترخيص، والمشقة متفاوتة بحسب الأحوال. قال الشاطبي (?) : إن سبب الرخصة المشقة، والمشاق تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة، في رفقة مأمونة، وأرض مأمونة، وعلى بطء، وفي زمن الشتاء وقصر الأيام، كالسفر على الضد من ذلك، في الفطر والقصر. وكذلك الصبر على الجوع والعطش يختلف باختلاف هذه الأحوال.
وإذا كان كذلك، فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة، فاعتبر السفر؛ لأنه أقرب إلى مظان وجود المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد، وبحسب الاجتهاد، كالمرض، كثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مرية فيه.
فإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي. ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي (أي نسبي) بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه.
وهناك وجه آخر: وهو أن المكلف قد يحمله دافع على العمل حتى يخفف عليه ما يثقل على غيره من الناس، من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وتحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم؛ فإنهم اعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، فالمشاق تختلف بالنسب والإضافات.
وهناك وجه ثالث دل عليه الشرع، كوصال الصيام؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله من فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سبب النهي – وهو الحرج والمشقة – مفقود في حقهم.