وحين نتأمل حركة التاريخ نجد أن الحضارة العربيّة الإسلاميّة بوعي من دستورها الإلهي قدرت الثقافات الأخرى. فلم تقف معزولة عنها، وإنما تثاقفت معها فتأثرت بها وأثرَّت فيها.

وتكاد تجمع المصادر العربيّة على أن خالد بن يزيد بن معاوية 85 هـ كان أول من بدأ حركة الترجمة إلى العربيّة للعلوم الهرمسيّة ( [9] ) .

ثم تعزّزت حركة الترجمة على يدي المأمون الذي شجع حركة الترجمة وأغدق عليها، إمّا لأنه كان مُحبّاً للفلسفة اليونانية، وإما لاستراتيجيّة سياسيّة يقاوم بها المأمون الغنوصَ المانوي والعرفان الشيعي المصدر المعرفي الذي تنفرد به الحركات المعارضة للعباسيين ( [10] ) .

غاية الأمر أن شيوع الفكر الهرمسي والاشتغال بالفلسفة اليونانية أحدثا هزّة للعقل العربي تمثلت في الولع بالنظر التجريدي والتأملات العقلية والقياس المنطقي وإهمال المنهج التجريبي الذي التقطه الغرب فبدأ به ثورته العلمية الحديثة ( [11] ) واتجاه كثير من المفكرين إلى الجدل العقائدي أولاً عند بني أميّة في “ الجبر ” والاختيار ثم إلى الجدل الفلسفي، وبلغ هذا الجدل في القرن الثالث الهجري على أيدي المعتزلة مرحلة النضج حيث اتسم منهجهم ((بظاهرة الإمعان في استقصاء الفكرة الواحدة، وتقليبها من جميع وجوهها والتغلغل فيها إلى أقصى إمكانياتها، وشق أبعاد جديدة لها، واكتشاف ما يمكن أن تنطوي عليه من عناصر عقلية ومواد فكرية تساعدهم على صياغة وجهة نظرهم في الله والكون والحياة والمصير …)) ( [12] ) .

ومع هذا جمع العرب بين الفلسفة والعلم، والتأمل والتجربة، وأضافوا للعلم إضافات مهمة قائمة على الاستقراء والملاحظة ونقد المنطق الصوري الأرسطي، الذي يغلب عليه التجريد ومجافاة المحسوسات، كما نجد ذلك في كشوفات الجغرافيين وعلماء الطب والطبيعة، وما نقف عليه في مباحث ابن خلدون في علم التاريخ وعلم العمران ( [13] ) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015