ممّا سبق يتضح لنا أن الثقافة هي السمة المميّزة لأي أمة من الأمم روحياً ومادياً، وفكراً وإبداعاً (وفي إطار من هذا التصوّر نعرض للثقافة العربيّة بوصفها سمة مميّزة للأمة الإسلامية عن غيرها من أمم الأرض في التصور والممارسة) ، ونقف على المثاقفة بوصفها رافداً ثقافياً تسعى كل أمة من خلاله لتنمية كيانها الثقافي، واستثمار ما لدى الآخرين من الحِكمَ التي كانت نِتاج عبقرية مُلهَمَة، وعملٍ دؤوب، وستكون المثاقفة النقديّة نموذجاً نكشف من خلاله عن الوعي الثقافي بالآخر تكافؤاً واختلافاً.
القرآن الكريم وهو يعرض لنا تجارب الأمم السابقة وتصوّراتها يؤسس لنا منهجاً في الوعي بالآخر، ويحدّد لنا سبيلاً إلى المثاقفة. فالبشرية واحدة، والعالم الذي تتدافع فيه عالم واحد، والربّ الذي تتجه إليه بمشاعرها وسلوكياتها واحد لا شريك له.
وهذا الانفتاح على تلك الثقافات يؤكد أن الثقافة البشريّة واحدة، وأن استيعابَ تلك الثقافات ونقدها هو أساسُ بناءِ الكيان الثقافي الخاص.
فالبنية الثقافية بنية ممتدّة في أعماق الزّمان، تضيف إليها الأمم إضافات متباينة في كمها وكيفها، ولهذا لم تدّعِ أمةٌ من الأمم أنها مكتفيةٌ ذاتياً بما لديها، وأنها طفرة عبقريّة مفاجئة، لم تقل ذلك الحضارة اليونانية والرّومانية، ولا الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولا الحضارة الغربيّة ( [7] ) .
من هنا كانت المثاقفة ضرورة وجود، وإمكانية تواؤم. والمثاقفة الراشدة هي التي تقوم على أسس متينة وتوظف ((جملة من النماذج المعرفية والمناهج الحكميّة والموازين الدقيقة للفصل بين المطلق والنسبي والمشترك والخاص، والمؤقت والدائم من ذلك التراث وبذلك استوعب المطلق والمشترك الإنساني والدائم المستمر، وتجاوز النسبي والخاص والمؤقت)) ( [8] ) .