لقد أثرت هذه المثاقفة على الفكر العربي تأثيراً واضحاً لكنّ الغلبة كانت للثقافة العربيّة لأنها ثقافة غالبة وليست مغلوبة.
وفي أشدّ حالات الشقاق السياسي والدويلات المتناحرة في القرن الرابع الهجري، ونجاح الحملات الصليبية على الشام، ونجاح المغول في تدمير بغداد والشام بعد ذلك لم ينبهر العرب بالغزاة، لأن حضارة المغزو أعظم من حضارة الغازي، فكانت الهزيمة للجسد وليست للروح ( [14] ) وللجغرافيا وليست للتاريخ، وكانت الثقافة العربيّة تعيش ازدهاراً لا مثيل له، واستطاعت تجاوز المحنة، وكان كثيرٌ من عباقرة الثقافة العربيّة نتاجاً لتلك الحقبة وما تلاها أمثال المتنبي والمعري والفارابي وابن سينا وابن حزم وابن طفيل وابن رشد وعبد القاهر وابن جني وابن خلدون وغيرهم ( [15] ) .
لقد وُجدت آثار الثقافات الأخرى في تراثنا الفكري، ولكنها آثارٌ ذائبة في النسيج الثقافي، فهي أشبه ما تكون بالجداول الرقراقة التي تصب في نهر عظيم.
أما الذي حصل مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي عقب دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 م فقد كان مختلفاً حيث حدث شرخ ثقافي هائل في الثقافة العربية وانقسم الناس إلى قسمين ((القسم الأول الذي أوجعته الهزيمة الجسدية فركز جهوده على تقوية الجسد العسكري الاقتصادي كيف؟ بالتوحد بالخصم الغالب، يأخذ سلاحه منه، بتقليده والأخذ عنه، بتحديث مجتمعنا على شاكلته ... بدأ الأخذ المنبهر بالتكنلوجيا (ق 19) وانتهى بمفاهيم العلم
(ق 20) .
أما القسم الثاني: الأخفتُ صوتاً والأبعدُ عن النفوذ فكان القسم الذي أوجعته الهزيمة الروحية. فركز جهوده على بعث الروح والإحساس بالقيمة الذاتية. انعزل عن الخصم الغالب وخاصمه، وعكف على تراث السلف الصالح يحاول العثور على منابع القوة فيه)) ( [16] ) .