ففي الموت قلب الدهور الرحيم
يرفرف فوق تلك الغيوم
لمن أظمأته سموم الغلاة
تنام بأحضانه الكائنات
وسدت عليك سبيل السلام
ففيها ضياء السماء الوديع
ونصف الحياة الذي لا ينوح (1)
فجسّد عذاباته وسآمته من الحية عبر علاقات لغوية ممتدة تبدأ بحرف الجر (إلى) الذي يفيد الانتهاء الزماني والمكاني، فليس هناك بديل ناجح يخلصه من عبث الحياة إلا الموت. ولذلك يحبب الموت إلى نفسه كما يحببه إلى المتلقي عبر علاقات لغوية، فالموت روح جميل، والموت مع الجام الروي والموت مع المهد الوثير، فجعل من الموت طرفاً وقوة فاعلة ثابتة ولكنه غير في دلالته كي يتمكن من إقناع السامعين بهذه الفكرة وتنبيههم إلى هذا المفهوم، مع ملاحظة أن التكرار في هذا النص يظهر فيه شيء من النمطية في تكراره لكلمة الموت، وإن كان ذلك يعلل بأن انشغال الشابي بالموت وقلقه الوجودي هو الذي أوحي إليه ذلك، فهو يرى أن الحياة ليست سوى ألوان من العذاب خاتمته الموت، لذلك نلاحظ أن تكرار البداية لم يكن متعاقباً، بل كان يستغل مابين البدايات في شرح أفكاره وما في ذهنه عن الموت حتى يكشف عن جوهره وأسراره، فجاءت القصيدة على شكل رباعيات، تكررت البداية في كل رباعية مرة أو مرتين حسب طبيعة الموقف الشعري.
لقد كشف هذا البحث عن الجانب الوظيفي للتكرار ضمن السياق الذي يرد فيه إذ يعد ظاهرة من الظواهر اللغوية الواضحة في الشعر العربي، ولذلك لابد له من إحداث وظيفة إما بنائية أو إيقاعية خصوصاً إذا استطاع الشاعر استخدامه بدقة وبراعة، فهو ليس جمالاً يضاف إلى القصيدة بحيث يحسن الشاعر صنعاً بمجرد استعماله، وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة أو أن تلمسه يد الشاعر اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات.