في آهة الشاكي وضوضاء الجموع الصاخبة
ويكرر حرف الجر (في) ست وعشرين مرة إلى أن يقول:
في ظلمة الليل الحزين وفي الكهوف العارية
أعرفت هذا القلب في ظلماء هاتيك اللحود
هو قلب أمك أمك السكرى بأحزان الوجود
هو ذلك القلب الذي سيعيش كالشادي الضرير
يشدو بشكوى حزنه الداجي إلى النفس الأخير (1) .
فجسّد أوجاعه وآلامه عبر قلب الأم الصادق ليدلك هو أيضاً على صدق حزنه فيحدث تأثيراً في المتلقي، هذا التأثير يمتد ويسير عبر حركة الكسر التي تظهر في معظم الكلمات منذ البداية إلى النهاية (في ظلمة… وفي الكهوف العارية..) فجعل منها إيقاعات موسيقية متناسقة ذات نغمة حزينة تنسحب داخل الأبيات بشكل متعاقب ومتلاحق ومكثف ليعبر عن تصميمه وتأكيده على استنفاد كل طاقاته كي يكون فاعلاً وحاضراً في كل الميادين حتى النفس الأخير من حياته فيقدم ويعطي من خلال حرف الجر (في) الذي يشير إلى التضحية والعطاء تجاه خصوصية معينة فتتماهى عندئذ ذاته مع الآخر وتشكل منهما قوة خلاقة ذات طاقة مميزة، كقوة القلب المتدفق كما جعل من هذا الحرف بؤرة مركزية تنطلق منها الأبيات وبذلك فإن ما يثيره التكرار من احساس في نفس السامع هو تجسيد لقيمته ووظيفته.
ومن أمثلة تكرار البداية تكرار (إلى) بشكل متعاقب ورأسي متوال يخلق وحدة بنائية تعكس تصور الشاعر للوجود الذي يسعى للخلاص منه بطلب الموت بإلحاح شديد، لذلك يصور الموت بصور جميلة (روح جميل) كما يجعل منه بداية ثابتة قوية يتردد صداها في كل سطر شعري واحد، بل قد جعل الموت عنواناً للقصيدة يقول:
إلى الموت أن شئت هون الحياة
إلى الموت يابن الحياة التعيس
إلى الموت إن عذبتك الدهور
إلى الموت فالموت روح جميل
إلى الموت فالموت جام روي
إلى الموت فالموت مهد وثير
إلى الموت إن حاصرتك الخطوب
إلى الموت لا تخش أعماقه
هو الموت طيف الخلود الجميل
فخلف ظلام الردى ما تريد
ففي الموت صوت الحياة الرخيم