ورابع تلك الأشياء التي دلت الآية الكريمة على اختصاص الرب بعلمها ما تكسبه النفوس في المستقبل بعد اللحظة التي هي فيها، وما سيكون من أمرها وماذا سيحدث منها أو سيحدث لها، كل ذلك علمه عند ربنا تبارك وتعالى ولهذا أمر الله تعالى رسوله (أن يقول لقومه: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ((1) .
ولو كان أحدنا يعلم من أين يأتيه ما يخاف ويحذر لتجنبه، وما أصابه مكروه ولو كان يعلم من أين يأتي ما ترغب فيه النفس من الخير لتعرض له وما فاته شيء من المطلوب والمرغوب. ولكن الله تعالى استأثر بعلم ذلك وحده.
وخامسها: علمه تعالى وحده أين تموت كل نفس، ومتى تموت وبم تموت، وعلى أية حال تموت، ولا يعلم أحد من خلقه، أين تموت نفسه ومتى، كما لا يعلم آجال غيره من النفوس. أما رب النفوس وخالقها ومحييها ومميتها وباعثها فهو الذي له علم ذلك كله: (إن الله عليم خبير (. فإن قيل إذا كان الخلق لا يعلمون ما يستقبل من الحوادث، فكيف استطاع الفلكيون معرفة تواريخ الكسوف وساعاته، واستطاع مراقبوا أحوال الطقس عن طريق المراصد الجوية الإخبار بأخباره قبل حدوثه.
قيل أن ذلك من التجارب البشرية المتكررة التي مكنت العلماء الذين يقومون بالرصد المتواصل من توقع تلك الحوادث على سبيل التوقع والظن لا على سبيل العلم واليقين فكما يستنتج أحدنا تقابل قطارين في نقطة معينة إذا كان انطلاقها في وقت واحد وسرعة واحدة سائرا كلا منهما في الاتجاه المواجه للأخر. فكذلك توقع الفلكيين مرور القمر بين الأرض والشمس في موضع معين في ساعة معينة لا يدل على علم الغيب، وإنما هو توقع مبني على التجارب والملاحظات المتواصلة، والاختبارات المتكررة. وهذا مما لا يجزم بحدوثه ووقوعه، والعلم بالشيء هو الجزم بما هو عليه، أو بما سيقع لا محالة، فليتأمل.
المبحث الخامس: حظ الإنسان من علم الغيب