يحيل على بعيد عن قصد لأن الحكم على الأحياء القريبة يستلزم منه أن يأخذ المتكلم من لسانه وبيانه.
ساعدت الجرائد والمطابع والمدارس على تخفيف الشرقيين من المبالغات ولكنها لم تتمكن إلى اليوم من نزع هذا الخلق المتأصل في السواد الأعظم وبعض الناس في الغالب مسوقون إلى المبالغة بحكم العادة والبيئة. ولقد وقعت من ذلك حادثتان كانتا من أكبر الأدلة على أن هذا الخلق فينا لا ينزع إلا إذا أكثر الكتاب من التنديد فيه وعملنا كلنا على قلب أوضاع مجتمعنا وعاداته.
فالحادثة الأولى جرت في مصر إبأن العقبة في السنة الماضية فقالت إحدى الجرائد المتحمسة أن الدولة حشدت في عريش مصر ثمانمائة ألف جمدي كتبت ذلك برقم غليظ ولما سئلت من الغد في معنى هذه المبالغة قالت أن المحشود من الجنود هو ثمانون ألفاً وأن الصفر زائد وبعد التحقيق تبين أن ما كان جمع هناك من الجند لم يتجاوز الألفين فتأمل مبالغة تقولها جريدة كبرى في مدينة كالقاهرة في مثل هذا العصر عصر الإحصاء والتقدير في قطر اتصل جنوبه بشماله وشرقه بغربه بالخطوط الحديدية والأسلاك البرقية والتلفونية بحيث لا يحتاج تحقيق هذا الغلو إلا لشيء من البحث.
والحادثة الثانية جرت لصاحب هذه المجلة أذكرها للقارئ على سبيل التمثيل والفكاهة فإني ما ذكرتها إلا وذكرت معها غلو الشرقي. ذلك أني كنت منذ تسع سنين أكتب جريدة الشام فنعى الناعي ذات يوم رجلاً من وجهاء إلا طراد في صالحية دمشق كان معروفاً بين أهل جيله وحيه بأنه من المعمرين المتمتعين فقال لي الناعي وكان من أكابر الفضلاء: أكتب أنه مات عن خمس وثلاثين سنة بعد المئة. فقلت له: أن العدد عظيم فهل لك أن تنزله فنهرني وقال: أكتب والحق أقول أن المرحوم كان أطول عمراً مما قلت لك يعرف الناس حتى أن فلاناً قال لي ذلك وأكده أفلا يسعك ما يسع العارفين به وعندها كتبت: ومات عن عمر جاوز الخامسة والثلاثين بعد المئة. ولم يكشف الناعي بذلك بل قال أن المتوفى خلف خمسمائة نفس ذكوراً وإناثاً فكتبت بعد تأبينه والغلو في ذكر عاداته وصحته طول حياته: ومما يجدر بالذكر أن له من الولد وولد ما ينوف عن خمسمائة نفس ذكوراً وإناثاً.
كتبت هذا وأنا بين الشك واليقين في صحته لكني كنت والحق يقال إلى اليقين أقرب لأن