مجله المقتبس (صفحة 84)

تأثير الآداب

للآداب معان كثيرة فمعناها اللغوي حسن الأخلاق وفعل المكارم وأطلقه المولدون في الإسلام على علوم العربية وأعني به هنا المنظوم والمنثور من الكلام ومنزلته من الفصاحة والبلاغة ليفعل في الأرواح فعل الراح. ولكل أمة أدب بحسب اصطلاحها ورسوم لغتها يطرب به عامتها فضلاً عن خاصتها وتثار به الأحقاد وتحرك الحفائظ وتدعى به إلى سبل السلام والوئام ويدلها على مواقع السداد والسؤدد ويذكرها بأيامها وأيام النازلين بقربها والقاصين عنها وهو على الجملة مسبر للوقوف على الحاضر والغابر ومهماز يدفع إلى العمل بعد القول ومثار كل فضيلة رافعة ومنار كل نجح عاجل أو آجل.

لابد في كل نهضة دينية كانت أو مدنية أن تتقدمها الآداب ويتفانى أبناؤها في حبها شهد بذلك تاريخ الأمم جمعاء. ألا ترى أن أديب القبيلة في الجاهلية كان يتدفق من لسانه معين البلاغة فتفعل كلماته في قبيلته يعقد بها سلمها ويشهر حربها ويعدد مفاخرها ومآثرها ويدون تاريخها وأيامها وإن سوق الأدب عند العرب لما نفقت وكثر تغاليهم في نقلها وإنشادها وأصبحت بينهم للبلاغة دولة، ولجوامع الكلم تأثير وصولة، نزل القرآن فأدهش بإعجازه البلغاء، وأسكت ببيانه مصاقع الخطباء، وتأدب رجال الخطابة والكتابة بآدابه وتبيانه فزاد تأثير الشعراء والخطباء أكثر من ذي قبل حتى كان أهل الحكم يحاذرون فلتات ألسنهم فيوسعون لهم من برهم ما يقطعونها به.

ولما أخذت الآداب موقعها من النفوس ونالت حظها من العناية ونضجت ثمرتها حتى كادت تذبل عرف العرب أن كيانهم لا يقوم بالآداب وحدها وسلطتهم لا تأمن البوائق ببنات الأفكار وإن دور الأقوال انقضى حكمه وجاءت النوبة للأفعال ونضبت مادة البيان ومست الحاجة إلى البرهان فأنشأوا إذ ذاك يتوفرون على الأخذ من كل علم يزيد في سعادتهم ويضمن لهم الراحة الدنيوية كما ضمن لهم الدين الراحة الأخروية وكان من أمر علوم الأمم وتناقلها بين ظهرانيهم ما كان من حسن الأثر وخدمة الحضارة والغضارة.

وهكذا لو بحثت في تاريخ كل أمة لألفيت الآداب روادها، إلى مسالك إسعادها، وقوادها، إلى ذرى رقيها وإصعادها، كان هذا شأن الفرس واليونان والرومان في القرون الماضية بل وشأن الترك والعرب في القرون الحديثة فإنهم لم ينبغ لهم في التاريخ والسياسة وفنون الحرب والطبيعة والرياضة والفلسفة رجال أحرياء بالاعتبار بالنسبة لمحيطهم وأسبابهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015