لا يكل الفهم عنه ولكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الزرد بالجعل. الثالث أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب كما لو قال قائل رأيت فلاناً يقلد الدر في أعناق الخنازير فكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها. الرابع أن يدرك الإنسان الشيء جملةثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق. الخامس أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده حقاً والبصير بالحقائق يدرك السر فيه.
قال صاحب كتاب إيثار الحق على الخلق: كثرت البدع وكثرت الدعاة إليها والتعويل عليها وطالب الحق اليوم شبيهٌ بطلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمر بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى. وأن نشأة الإنسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة. قال ولا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين ولا المتقي من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثرة الغافلين بل ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه.
ونسب تنكب الناس عن طريقة الحق لعدم الحرص وقوة الداعي وللخوف من شر الأشرار مع الترخيص في التقية بإجماع الأمة فقد أثنى الله على مؤمن آل فرعون مع كتم إيمانه وسميت به سورة المؤمن وصح أمر عمار بن ياسر بذلك وتقريره عليه ونزلت فيه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. وقد قيل من عرف الخلق جدير أن يتحامى ولكن من عرف الحق فعسير أن يتعامى. والذين آمنوا أشد حباً لله. ونسبه أيضاً للخوف من الشذوذ من الجماهير والانفراد عن المشاهير.
وذكر أيضاً أنه زاد الحق غموضاً وخفاءً أمران أحدهما خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام قائلاً: ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ولا برح المحق عدواً لأكثر