مجله المقتبس (صفحة 807)

الأحوال. وقد تترتب مفاسد دينية ودنيوية على سوء استعمال التقية ولكن قل في العلماء وأرباب المقالات من أحسن استعمالها وساعده محيط بلاده على تحقيق أمانيه. والتوسط في كل شيء محمود المغبة فكيف بالتوسط مع الطواغيت والمرء لا ينجو معهم بدونه.

عهدنا الحجاج لما هزم عبد الرحمن بن الأشعث وقتل أصحابه وأسر بعضهم يتلقى كتاب عبد الملك بن مروان في عرض الأسرى على السيف فمن أقر منهم بالكفر خلّى سبيله ومن أبى قتله. فأتى منهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير. وكان الشعبي ومطرف تريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها فذهب عامر ومطرف إلى التعريض والكناية فعفا عنهما وأما سعيد بن جبير فأبى ذلك فقتل. وكان مما عرَّض به الشعبي: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وانخزل بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء. قال: صدق والله ما برّوا بخروجهم علينا ولا وقووا خلّيا عنه. ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله فقال هل الحجاج: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: إن من شق العصا، وسفك الدما، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر. قال خليا عنه. ثم قدم إليه سعيد بن جبير فقال له: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت بالله مذ آمنت به. قال اضربوا عنقه.

أرأيت رجلاً معروفاً بصلابة دينه ووفرة علمه وثبات جنانه وقوة برهانه فادى بروحه من أجل الحق وغلّب الموت على القول بما يخالف ما وقع في نفسه؟ أبى إباؤه وأنفت أنفته أن يلجأ إلى تقية لا يرضاها ذوو النفوس الكبيرة فذهب مثال الكمال وأنموذج الفضيلة والتقوى أبد الدهر. هذا هو سعيد بن جبير الذي لا تفتأ الألسن تذكره بالرحمة وتسخط على من قتله شر قتلة.

ومن التقية المحمودة إن صح أن يسمى التقية ما يأتيه بعض العلماء من الامتناع عن إفشاء بعض الأسرار في الدين للعامة وقد أرجع الغزالي هذه الأسرار التي يختص المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها إلى خمسة أقسام: الأول أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك وإخفاء سر الروح من هذا القسم. الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015