إلا أثر من آثار زيادة السكان في أوروبا وإن الناس أصبحوا يهتمون لأمور أخرى غير حفظ حياتهم مباشرة والسكان من العوامل الضرورية في التبدلات السياسية وعندنا أن الشعب هو أرض التاريخ الذي تنبت فيه الأوضاع والأفكار ولما نمت النفوس منذ القرن الحادي عشر في حمى أسوار المدن والمقاطعات المنظمة ظهرت قوة جديدة أمام الإقطاعات وانتهى التماسك السياسي بقيام المدينة الحديثة وأدى نمو السكان نمواً عاماً بقاعدة الانتخاب الطبيعي أي الأفضل والأحسن إلى شكل جديد في الحياة وتحسين الأخلاق وتدميثها وكثرة السكان شرط في قيام المدنيات العليا وفي تأسيس الأملاك العظمى وهي التي تزيد حياة البشر حركة وغنى وبهجة.
نعم كثرة السكان شرط في الحضارة ولكنها إذا بلغت درجة تؤدي إلى قلة سريعة في المواليد ربما كان فيها الخطر على المدنية والمدنيات لا تقوم إلا في بعض أدوار التاريخ على أن الرفاهية العامة والأمن اللذين هما من أهم العوامل في المدنيات الكبرى قد يكون منها قلة عدد المواليد وهذه القاعدة تجري في كل مكان اليوم في ألمانية وايطالية وانكلترا وقد كانت فرنسا أول من وصلت إلى هذا المعدل فتعدلت وفياتها مع ولادتها مع أن فرنسا كان عدد سكانها في أواسط القرن الثامن عشر عشرين مليوناً وانكلترا ثمانية ملايين واسبانية ثمانية وايطاليا عشرة وألمانية كلها مع النمسا وتوابعها اثنين وعشرين مليوناً وروسيا في أوروبا اثني عشر مليوناً وقد زادت كلها على كثرة من هاجر منها إلى أمريكا في القرون الثلاثة الأخيرة ومع هذا زادت كل مملكة ولكن زيادة بلاد الانكليز والجرمانيين كانت أهم وأعظم فبلغت بريطانية العظمى اليوم نحو خمس وأربعين مليوناً وفرنسا نحو أربعين مليوناً وألمانيا خمس وستين مليوناً والنمسا والمجر خمسة وخمسين مليوناً وايطاليا خمسة وثلاثين مليوناً واسبانية ثمانية عشر مليوناً فمنها ما تضاعف ثلاث مرات ومنها مرة ومنها مرتين.
وقد نفى سكريتان أن يكون قلة السكان ناشئة من فساد الآداب وقال أن الرؤوس بإقرارهم أنفسهم من أعظم الموغلين في المفاسد والموبقات ومع هذا يزيد سكان الأرياف عندهم والسبب في قلة المواليد هو في الحقيقة إرادة الرفاهية الولادة لا تشكو من الفقر ولا من حرية الفكر ولا من حرية الأخلاق وما خرابها آت الأمن كثرة الحذر الذي هو ابن الطمع.