مضطرة لا مختارة وتحتل أصقاعاً جديدة لتعينها وقت الشدة.
ذكرت لكم هذه الأمثل لألفت نظركم إلى أننا في ضيق وأن الوقت حرج جداً ومن ضيع الفرصة لا ينفع أن يعض أصابعه ويندم حيث لا ينفعه الندم. فيكتفي بمدح ماضيه ويعقد يديه أمام المستقبل. فمن أحب وطنه وعشقه حقيقة وجب عليه قبل كل شيء أن يصلح نفسه ويزينها بالعلوم العصرية ثم يفكر بأن هناك أمة له عليها حقوق عديدة منها حق بقائه فيجتهد إذ ذاك للقيام بواجبه نحوها وإيصالها إلى درجة الرقي والإسعاد، درجة تمنحها حق البقاء بين الأمم الحية.
أخواني، لا تظنوا بأني أعرض بالذين يفاخرون بماضيهم لأني أعتقد أن الإنسان لا يمكنه تسلق سلم المعالي إلا إذا عرف نفسه ومعرفة النفس لا تتم إلا بمعرفة الآباء والأجداد وما تركوا من الآثار. لأن الإنسان ليس ابن يومه بل ربيب أمه وأن هناك سلسلة تربطه، شاء أم أبى بالماضي. وما أصدق ما قاله الفيلسوف الشهير رنان الأمة مؤلفة من أمواتها أكثر من أحيائها فمن أراد خدمة أمته كان جديراً بأن يبحث عن ماضيها ويدرس تاريخها ويكشف التراب عن تلك الجذور التي تسنده في حياته دون أن يراها ثم يستعين بها لخدمة مبدأه وتعزيز غايته، غير أنني قصدت بقولي إذ ذاك من يتحمس مفاخراً بقوميته مع أنه يجهل أصلها وفرعها يجهل رجالها وآثارها، قصدت بقولي من يصرخ دائماً، أمتي، أمتي، كانت صاحبة علم ومجد، صاحبة مدنية عظيمة، أوليست هي مهد المدنية الغربية؟. . . . وكلها جمل مفخمة سمعها من رفيقه واكتفى بتردادها في كل محفل ومحضر دون أن يفكر بأن الألفاظ لا قيمة لها إذا لم تستند عَلَى دلائل علمية وأدلة حية.
من حب أمته فليبحث عن أحوالها وآثارها وليجتهد في تلقيح ما هو موفق من المدنية الغربية فيها. نحن العرب، يقال عنا أننا أذكياء، فلو سمعنا بهذه القضية أليس يجدر بنا أن نفهم الآن أننا في القرن العشرين، قرن الجهاد المتمادي والسعي المتوالي وإن الذكاء وحده لا يكفل للإنسان حياته إذا لم يأخذ بالأسباب بإرادة أشد من الحديد. نعم عن هذه الصفات صعبة المنال غير أنه يجب عَلَى الإنسان أمام المصاعب أن لا يقنط إن الأمة لا تعمد عَلَى حالها وليس لها ثقة بأفرادها تكون قد أساءت الظن بنفسها ومن أساء الظن بنفسه تدرج إلى اليأس وهناك الطامة الكبرى إذ ليس بنتيجة اليأس إلا الفتور والخمول.