خروجه من حجر أمه يقع في ارتباك ظاهر لما يتهاجم عليه من العوارض الكثير: فلمسة يد تؤذيه ولفحة قر تؤثر فيه. فيربو وينمو بين حرص الطبيعة وصعوبة المعيشة وكلما تقدم في السن كثرت احتياجاته وتراكمت عليه المشاكل وتضاعفت عَلَى جانبيه الرقباءُ حتى إذا ما أراد شيئاً وجد ألوفاً مع الموانع تزاحمه.
فهذه المناقشة أو بالأحرى هذا النزاع والتزاحم يتجلى بكل سعته وشدته عندما يخرج الإنسان من المدرسة إذ يكون حينئذ قد قبض عَلَى زمام إرادته وافلت من الحماية العائلية فيدخل إذ ذاك في حياة جديدة يطلب الرغيف والزاد متكلاً عَلَى قوة ساعديه وقيمة كسلبه فالوسط الذي يلجه يجد فيه أناساً كثيرين يزاحمونه عَلَى مرغوبه ويحولون بينه وبين مطلوبه. وهناك الطامة الكبر إذا لم يكن قادراً عَلَى دفع المشكلات وإزالة العثرات.
فحالة الأمم في وقتنا هذا لا تختلف عن حالة الأفراد إن لم تكن أشد وطأة وأعظم خطراً. فالأمة لا تنظر إلى حقائق الأمور بعين الاعتبار وتهمل نفسها بمجاراة مجاوريها في سبيل الرقي الأدبي والمادي تمسي ولا شك متدهورة في هاوية الدمار من حيث لا تشعر تختار السر وهو أشأم أصناف الانتحار وأفظعه.
قلنا أنه يجبعلى الأمة أن تنظر إلى عواقب الأمور وتسعى بكل جهدها وطاقتها وتستعمل جميع الوسائط لترقية أبنائها لا لترقيتهم بصورة مطلقة إذ أن ذلك لا يكفي، بل لإيصالهم إلى درجة يقدرون بها، بواسطة التعاون والتضامن بينهم، عَلَى الاحتفاظ بحريتهم وشخصيتهم لا جرم أنكم تعلمون أيضاً أن بعض الأمم في حالة من الرقي تختلف درجاته غير أن الرقي النسبي لا يجهل أحد منكم أن فرنسا تجتهد كل الاجتهاد لتزييد نفوسها ويحق لها أن تضطرب كل الاضطراب في الوقت الحاضر. أو بينا ترى نفوسها تزداد مائة وثلاثة آلاف في خمس سنين أي من تاريخ 1905 إلى 1909 فألمانيا قد زادت في الوقت نفسه، بما يربو عن الأربعة ملايين ومائتين وسبعة وأربعين ألفاً في حين أن إنكلترا وعدد سكانها 36 مليوناً ما عدا نفوس إيرلاندا واسكوتلاندا قد زادت سنة 1909 فقط بما يقدر بأربعمائة وثلاثة عشر ألفاً فالزيادة المطلقة التي وقعت في فرنسا في هذه المدة هو سبب ضعفها لعدم كفايتها بالنسبة لمجاوريها فهذه الزيادة العظيمة في ألمانيا تدعوها إلى أن تزيد عسكرها إلى 700 ألف مقاتل في وقت السلم وأن تتداخل في مسائل أغادير وغيرها