أخواني الأعزاء
لا بد أنكم قرأتم أموراً كثيرة عن ذلك الفيلسوف الإنكليزي الشهير داروين. اصطدمت مخيلة هذا العالم الطبيعي صاحب الفكر الثاقب والنظر النافذ بحادثة فجائية تجلت أمامه أينما حل وحيثما ذهب، حادثة عامة وجدها تتناول جميع ما يدخل تحت عنوان الحياة نباتاً كان أم حيواناً: تلك الحادثة، كما تعلمونها عي التنازع عَلَى البقاء أو بتعبير أخص من عزم عَلَى محافظة حياته. وجب عليه أن يتجهز لرد طوارق الحدثان التي لا بد من أن يصطدم بها في كل آن.
جلبت نظره تلك الحادثة العامة فابتدأ من ساعته يبحث عن دواعي ذاك النزاع والأسباب التي تؤدي لتقوية بعضهم وتفوقهم وإضعاف الآخرين وتقهقرهم. فمكن جملة الأسباب التي وجدها، الصبر عَلَى شدائد الطبيعة، والتفوق من جهة الاقتدار المادي والمعنوي، وتزايد النسل عند فريق أكثر من الآخر غير أنه لم يقف عند هذا الحد بل واصل البحث والتنقيب حتى ظهر له بأن نتيجة هذا النزاع الدائم بين العناصر الحية هو بقاءُ الأنسب في العالم وأن السيادة مع تقلب الزمان تبقى في أيدي أولي العزم والتدبير فوجد عَلَى توالي الأيام أن الضعيف محكوم عليه والقوي حاكم، أو بعبارة أقرب إلى الحقيقة، الضعيف يموت والقوي يسود.
فهذه حقيقة قد أيدها علماء كثيرون قبل داروين، وفي جملتهم الفيلسوف العربي الشهير ابن رشد فإنه قال: (ليس عَلَى الضعيف عَلَى مر الأزمان إلا حالتان، إما أن يموت مذلولاً وإما أن يتمثل بأقوى منه فيكتسب صفاته وبذلك يقوى فيسهل عليه النزاع مع معامع الحياة) ولكن داروين، أيها الأخوان، لم يكتف بإثبات ما ذكر بل تدرج من القانون العمومي، قانون بقاء الأنسب، وظهر بنظريته المسهورة التي طالما تجاذبتها العقول وتشاحذت بها القرائح والأذهان وهي: الارتقاء في العالم.
سردت لكم أيها الأخوان هذه العبارات لا لأنني أريد شرح نظرية ذاك العالم المدقق، ولو أردت ذلك حقيقة لأضحككم حالي لعلمكم أن الوقت ضيق جداً وأن شرح تلك النظرية يتوقف عَلَى معرفة مسائل جمة لا تدخل في موضوعنا كما أني لست بقادر عَلَى إتيانها، وإنما أردت أن أذكركم والذكر لا تنفع، أن الحياة ليست كما يتوهمها كثير منا. فالطفل لدى