إلى السجع البارد والازدواج الفاتر والتكلف الممقوت وأخذ العلماء يستنبطون علوم الأساليب كالبيان والمعاني فلهوا بالقديم من جيد الكلام عن أحداث الجديد من أمثاله وقد اخذ الشعراء يتعلقون بأهداب البديع ويتشبشون بمحسنات اللفظ ويغلون في المجاز والاستعارة حتى صار لشعرهم معرض رث ومنظر سمج ولعل لآخر من أجاد من الشعراء في هذا القرن عَلَى الطريقة الفنية الصحيحة المبرأة من العيب والنقد هو الشريف الرضي رحمه الله فأما المتنبي وأبو العلاء فقد عنيا بالمعاني أكثر مما عنيا بالألفاظ عَلَى أنهما كانا يحاولان الإجادة اللفظية فيقعان في التكلف الممقوت ليظهرا أنهما قادران عَلَى اللغة ومحيطان بها وحسبكم من ذلكم لزوميات أبي العلاء وما فيها من اصطناع الحواشي واتخاذ الطرق الوعرة.
فأما المتنبي فلا أَستطيع أن أحصي سرقاته واستعاراته الباردة وتكلفه الممقوت وشغفه بالمحسنات اللفظية ولقد أحفظ من شعره ما لو أنشدتكم إياه الآن لظننتموه لغة فارسية أو هندية عَلَى أن كل ذلكم لا يغض من
قدر الرجلين في الحكمة والفلسفة أما الخطابة فلم يبق لها أثر في ذلكم العصر وأما الكتابة فقد كثر فيها السجع والتكلف وكما قلنا وقد الفت كتب كلها عَلَى طريقة السجع وقد استعجمت الألفاظ ونشا في هذا العصر نوع من الكتابة ليس له نتيجة إلا الدلالة عَلَى المقدرة اللغوية كمقامات الحريري التي لا أريد أن أُصفها إلا بان كلام الجاهلين اقرب منها فهماً وأسوغ منها مذاقاً وأحسن في الإسماع وأدنى في الانطباع ولم يأت القرن السادس حتى لزمت اللغة العربية كلها وأخذت في الاحتضار وهنا يصعب علي أيها السادة أن أرافق اللغة وهي تحتضر فلأدعها الآن ولبحث عن أسباب نموها وسقوطها.
أسباب نمو اللغة العربية
في اللغة العربية مزايا ثلاث هن أسباب نموها وارتقائها وهن الاشتقاق والمجاز والتعريب.
فأما الاشتقاق فهو تغيير مادة الكلمة تغييراً قريباً أو بعيداً أو أبعد إلى صور مختلفة للدلالة عَلَى معان متنوعة فكلمة الرفع مثلاً تدل عَلَى العلو فإذا غيرت إلى الفرع دلت عَلَى الغصن وإذا غيرت إلى العرف دلت عَلَى الطيب وإذا غيرت إلى العفر دلت عَلَى التراب ثم لنا أن نأخذ منها رفع بالتحريك للدلالة عَلَى الماضي وكذلكم يرفع ورافع ومرفوع الخ.