به وإن لم يظهر فلا يترك العمل بالدليل الثابت لاحتمال النسخ بل يعمل به حتى يظهر ناسخه، ولو صار الدليل متروكاً بكل احتمال لم يبق دليل معمولاً به إلا ترى إلى ما نقله أصحاب الأصول عن أبي حنيفة ومحمد وحسن بن زياد رضي الله عنهم أن الحديث وإن كان منسوخاً لا يكون أدنى درجة من الفتوى ما لم يبلغه النسخ، وأيضاً قد شاع عن الفقهاء الرجوع عن قول إلى قول فهذا القول الذي يخالف الخبر الصحيح يجوز أن يكون قولاً مرجوعاً عنه فيكون كلا قول فكيف يترك الحديث الثابت بإسناده لاحتمال النسخ ولا تترك الرواية الخالية عن السند لاحتمال رجوع قائلها بل الظاهر أنه لم يبلغه الحديث ولو بلغه لرجع إليه أو كان ذلك المروي مذهبه فبلغه الحديث وترك مذهبه بالحديث ورجع إليه إحساناً للظن به فإنه إن خالف الحديث لقلة المبالاة والتهاون به سقطت عدالته فلا تقبل روايته وفتواه.
وكذلك قولهم: يترك النص لاحتمال كونه مؤولاً: قلنا احتمال التأويل إما أن يكون ناشئاً عن قرينة أو خفاءٍ فيه كما إذا كان مشتركاً أو مشكلاً أو مجملاً مثلاً أولا فإن كان الثاني فلا عبرة للاحتمال أصلاً إذ المراد من الكلام ظاهره عند خلوه عن قرينة تصرفه عنه والعقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة وإلا لبطل فائدة التخاطب، والفرار عن ظل جدار غير مائل لتوهم السقوط ينسب إلى السفه ولا كذلك إذا كان مائلاً، وإن كان الأول فإن قدر على ترجيح أحد المعاني المحتملة بالرأي فيعمل بما ترجح عنده وإن لم يقدر على الترجيح وكان جواب المسألة مما اشتهر وظهر وانجلى عن أصحابنا أرجو أن يسع الاعتماد عليه والعمل به إن شاء الله تعالى، ألا ترى إلى قول العلماء أن التمسك في الأصول بالكتاب والسنة وإجماع الأمة مع المجانبة عن الهوى والبدعة وفي الفروع بالمجمع عليه ثم بالأحوط ثم بالأوثق دليلاً ثم يقول من ظن أنه أعلم وأورع.
وأيضاً كما أن التأويل محتمل في الحديث كذلك يحتمل في فتوى الفقيه فإن جاز فهم المراد من الفتوى لظهوره جاز فهم المراد من الحديث أيضاً لظهوره، وليس الفقيه بأقدر على الفهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا القول الذي أحدثوه وحكيناه عنهم من لزوم الأعراض عن سنن النبي وأحاديثه صلى الله عليه وسلم بالشبه التي وصفناها أحقر وأصغر من أن ينقل ويثار ذكره إذ هو قول محدث وكلام خلف يستنكره أهل العلم وحججهم داحضة عند