ما سنذكره من أحوال الفتوى لا يدريه إلا نقابة في التاريخ دراكة في علوم الاجتماع بصير بالماضي والحاضر، خبير بالحديث والغابر.
ومن المؤسف أن تنبذ هذه المعارف ظهرياً، وتصبح في هذا الجيل نسياً منسياً، فكم في بحر الأوهام من غاد ورائج، ويزعم أن هذه الحالة هي في عهد السلف الصالح، فلا يدري شيئاً من تأثير الدول، ولا يعرف أمراً من آثار الأول.
إن الباحث عن الموازنة بين السلف والخلف في شؤون الاجتماع وطبيعة العمران يعتوره من مصاعب التنقيب ومتاعب العمل وإجهاد الفكر ما لا يدريه إلا من عانى ما عاناه، وأنفق من دم قلبه وقوة عقله ما ماثله أو داناه، ولذا سيعد ما كتبناه في هذا البحث من أعظم الدروس التي ألقيت على عالم العلم في هذا العصر، يذكر ما سلف لهذا الموضوع من جليل الشأن في كل قطر ومصر. ويعرفهم ما ترك الأول للآخر، وما حفظته لنا من الكنوز ذخائر قدماء الأكابر، فرحمة الله على السلف الناصحين، وأيد الله من تبعهم بإحسان من المصلحين.
ولنشرع في البحث مفصلاً ومبوباً، ومعنوناً جملاً جملا ومرتباً، والمستعان بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أول من قام بمنصب الفتوى في الإسلام
قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلاً في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمخل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف لا وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) وكفى بما تولاه الله بنفسه تعالى شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه يستفتونك قل الله