هذا بحث علمي أدبي، تاريخي اجتماعي، يهم كل نبيه درايته، كما يجب على كل فقيه معرفته ودراسته، لا سيما من يتولى منصب القضاء، أو وظيفة الافتاء، فإن هذا البحث من أهم ما يحتاج إليه، وأعظم ما يضطر للوقوف عليه، كيف لا ومنه يعرف شعائر الحق في الأقضية والأحكام، ويتوصل به إلى فيصل الأمور بالعدل في نوازل الأنام، فهو على التحقيق لباب الفقه في الدين، وسر الأصعاد إلى ذروة الاجتهاد في مقاصد الشرع المتين.
لا نريد أن نبحث في الفتوى من حيث يعرفها الناس أنها وظيفة من الوظائف ومنصب من المناصب يتولاه من يوظفه من الاستانة شيخ الإسلام، ليعول على فتواه عند توقف الحكام، لا نقصد هذا لأن سبيلها المذكور معروف معلوم، لا حاجة إلى أن يكتب فيه ما كان يكتب أيام استئجار العلوم، وإنما نروم الكشف عن منشأ الفتوى في الإسلام، وكيف كانت في القرون الثلاثة العظام، ثم فيما بعدها إلى العصور الوسطى ومن كان يتولاها أيام استفحال العلم واتساع مناحيه، ووفرة رجال الفضل وأئمة الاجتهاد فيه، ثم ما اشترط في أولي الفتوى وما ذكر من آدابهم وآدابها، وآداب من يستفتى ويرجع إلى أربابها.
يتبع هذا مباحث منوعة ضافية الذيول، وافرة النقول، ربما يقل في سبرها مجلدات، ولا كثرة في العلم كما لا إسراف في الخيرات، بيد أنا نقتصر من هذا المبحث على اللباب، ليكون نموذجاً ومدخلاً لنجباء الطلاب.
مما يدهش المنقب على أصول الفتوى ما بلغته من عناية الأئمة في مطالبها ومقاصدها وما تفننوا به من استنباط واجباتها واستثمار فوائدها، فيعجب مما كانت في العصور الأولى عليه وما آلت بعد إليه، ولئن كان لضعف العلم في القرون الأخيرة مدخل في هذا التباين إلا أن اليد العاملة فيه اختلاف سياسة الدول في الأخذ بالعلوم النافعة وإنهاض رجالها، ونشر التعليم المفيد والتهذيب وتوسيد الأمور إلى حكمائها وإبطالها، فقد تختلف السابقة عن اللاحقة في هذا المضمار، وتخلف أمة غيرها فتقودها بعاداتها وتأخذها بنظامها فتستلب منها الأفهام والأفكار، ويرجع هذا إلى فناء طريقة تائدة في طريقة طريفة، كما تفنى في أمة غالبة قوية أمة مغلوبة ضعيفة، فتدرس آثارها وعلومها، وتمحو عادتها ورسومها ولاختلاف الدول وتعاقبها على الممالك، مدخل عظيم في اختلاف قوانين العلم والعلماء في جميع المسالك.