من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة ورجال سياستها فأصبحوا يسيرون على رغباته وكل من خالفها ولو فيسره أقصاه وسجنه وعذبه وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مراناً على هذه الفعال ويبالغ في الاحتياط لنفسه وغدا يتولى كل أمر بذاته ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم وما يصطنع إلا الأسافل من كل جنس من أجناس الدولة لعلمه بأنهم يفادون بكل مبدأ في سبيل نصرته على الباطل حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي السفلة من أعوانه الجهلاء الطغاة إلا قليلاً.
وإذ كان مفطوراً على الطمع ويحسب أن المال يعمل كل شيء أخذ يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يحتال لأخذها بلا ثمن إن كانت من الأملاك الأميرية أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد ثم ألف الشركة الخيرية لتسيير السفن في مواني الأستانة وشركة أخرى لحسابه بين البصرة وبغداد وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع ومعامل لصنع السجاد وغيره وضارب بالأوراق المالية وهكذا أصبح عبد الحميد تاجراً مزارعاً مضارباً لا يهتم بشيءٍ من أمر الملك إلا إذا كان تقريراً من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بها خزينة الأمة وكلهم أمناؤه إن أخطأ وأفلهم الأجر وإن أحسنوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. حتى لقد قلَّ جداً في عماله من لم يتجسس له لاسيما بعد أن رأى الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية.
وبهذا استنزل غضب عقلاء الأمة وأحرارها وكان كلما بالغ في الضغط عليهم واشتد في إرهاقهم وإعناتهم ينمو عددهم بنمو الميل إلى التعلم. فكانت مدارس الدولة ولاسيما العالية منها على شدة المراقبة عليها لا يتصور العقل أكثر منها وعلى إصدار إراداته تترى لجعل المعارف صورية لا حقيقية ـ منبعث تلك الشعلة التي قضت على استبداده الذي لم يكد يعهد له مثيل في تاريخ الأمم فزحزح المتخرجون فيها أسس الحكومة المطلقة المدمرة وأقاموا مكانها على التقوى أساس الحكومة المقيدة المعمرة.
عرف عبد الحميد أن بالمدارس والمطبوعات تستنير العقول فيقل الراضون عن حكمه