فالناظر في كتاب يقتضي عليه بادئ بدء أن يطالعه كله حتى إذا أتى على آخره ورأى المؤلف خالف شرطاً أخذ على نفسه أن يجري عليه كأن يطيل وهو يريد الاختصار أو يختصر وهو يتوخى الإطالة أو يدخل علماً في علم أو يخبط في العبارة ويخلط في الإشارة أو يركب مركباً لا يسوغ ركوبه في التأليف كأن يكون كتابه في الأدب ويودعه صنوفاً من الخلاعة والرقاعة - إذا فعل المؤلف هذا يسوغ للمطالع بعد أن يتلو كلامه حق تلاوته أن يصدر رأيه فيما طالع ويعتدل في حكمه على كل حال.
كنت مرة أطالع تاريخ ابن جرير الطبري وهو في عشرين مجلداً فلم أكد أقرأ جزأين أو ثلاثة حتى كاد يعروني الملل لكثرة ما قرأته من الأسانيد ولقيته من الحوادث قبل البعثة وأكثرها مأخوذ عن الإسرائيليات معدود في نظر المحققين من الأخبار الضعيفة. فشكوت أمري لأحد الأدباء وأشرت إلى ما ألقاه من العنت والتعب فعذلني على تطلبي لمثل هذه الأسفار المطولة وعجب من توفري على دراستها والأخذ منها فما أجبته بغير السكوت إلا أنه لحظ بالحال أنني وإياه على طرفي نقيض في هذا التصور. ثم ذكرت مثل ذلك أمام إمام من أئمة العلم فأغضى عن خطابي وتلهى عن جوابي إلا أنه قال حبذا لو ظفرنا له بمختصر فإن بعض العلماء اختصروه قديماً. وما كدت أتصفح الجزء الرابع من كتابي حتى ارتاحت نفسي إليه بعد انقباضها ولانت بعد شموسها وأخذت أطالع فيه الساعات الطويلة واستفيد منه ما لم أره غيره من قبل. وأنشأت أقيم الأعذار للمؤلف رحمه الله في إطالته لأنه جعله مأخذاً للمؤرخين والمطالعين فعدَّ كتابه من الأمهات كما أنه هو من الإثبات الثقات.
مضت على ذلك أيام فذاكرت الإمام المشار إليه فيما وقع في نفسي فاندفق يهدر بما جاش به صدره وأفاض في هذا الموضوع إفاضة أبانت عن ضعف المتسرعين في الأحكام على المؤلفين بما تمنيت لو كنت كلي أقلاماً تكتب ما أملاه في ساعة فمما قاله: هذا كتاب الحيوان للجاحظ ضمنه ما يلزم الطبيب والأديب فجاء عبد اللطيف البغدادي فاختصره مقتصراً فيه على ما هو أمسُّ بحاجة الطبيب وأعلق بغرضه وربما يجيء غيره فيكتفي من كتاب الحيوان بما يروق الأديب. ولما ذكرت له ما نقله الدميري من ذكر ملوك الإسلام في كتاب حياة الحيوان قال: الحق معك في ذلك لكن لا يفوتك أن الدميري ليس من علماء