الانتقاد في البشر خلة يجيدون فيه بحسب ما رزقوا من القوى العقلية واستنبطوا من الأسرار العلمية والمرء في الغالب لا يرى عيوب نفسه ويحتاج أن يدله دال معتدل عاقل عليها. وكلك المؤلف وما تأليفه إلا بضعة من نفسه وحسنة من حسناتها أو سيئة من سيئاتها. ولكن ما يسوغ للقرين أن يقوله لقرينه لا يسوغ للعامي أن يقوله للخاصي ولا للغائب أن يعرضه على الحاضر.
ومن الأسف أن سرعة الحكم فاشية في المشرق مستحكمة من نفوس أهله فنرى أحد المتعلمين من أبنائه إذا ألقي إليه كتاب ينظر فيه أسطراً ويحكم على المؤلف حكمه المسمط الذي لا يقبل النقض ولا الرد دون أن يعرف مقصده أو يقرأ كتابه برمته أو مقدمته على الأقل. ولطالما كتب بعضهم تقريظاً على بعض الكتب بمجرد تلاوة صفحة من كتاب وسلق كاتبه بالسن حداد لجملة رآها فيه وربما فاته تدبر السياق والسباق وكان ما انتقده منبهاً عليه فصار الناقد ومقصد المؤلف على طرفي نقيض ينتقد عليه ما لو كان قرأ مقدمته على الأقل لما ألقى القول على عواهنه وحكم ابتساراً وافتئاتاً.
وبعد فإن كتب العلم كالبضائع تعرض في السوق فتتناولها الأيدي بحسب الرغبات فكما أنه لا يحق لمن نزل السوق لابتياع ثوب أن يعترض على قماش لا يوافق ذوقه وحالته إذ أن الناس من لا يرغب في غير هذا الضرب من النسيج فإنه لا يسوغ لمن يعد نفسه من طبقة العالمين أو المعلمين أو المتعلمين أن يزيف قولاً لقائل دون النظر في المبدأ والغاية والأصل والفرع. لابد لكل مؤلف من غاية يرمي إليها في تأليفه يفهم ذلك في الغالب مما رتبوا كما قال ابن ساعد في صدر كل كتاب من تراجم تعرب عنها سموها الرؤوس وهي ثمانية: الغرض والمنفعة والسمة والواضع ونوع العلم ومرتبة ذلك الكتاب وتربيته ونحو التعليم المستعمل فيه. قال وكتب العلوم لا تحصى كثرة ككثرة العلوم وتفننها واختلاف أغراض العلماء في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف: مختصر لفظها أوجز من معناها وهذه تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني والعبارات الدقيقة ومبسوطة تقابل المختصرة وينتفع بها للمطالعة ومتوسطة لفظها بإزاء معناها ونفعها عام.