وقصارى القول فقد علمت مما مر بك بعض حسنات هذا القرن ولا يفوتك علم ما يناقضها. ومن نظر بعين البصيرة يتضح له كل الوضوح أن القرن التاسع عشر أفاد المجموع أكثر من الآحاد وإذا نظرت كل شيء في الوجود نظر المستبصر تراه ذا وجهين وجه النور ووجه الظل وأحدهما نتيجة لازمة للثاني. فإنك ترى الظافر في الحروب العظمى الوطنية يسكره النصر فيحتفل بما يؤيد تاريخه ويترنم بالأناشيد الوطنية ليخلد آثار سلاحه في رقاب الأعداء ويسجل عظمة أمته ناسياً ما أهرقه من الدماء وألوفاً من النفوس التي قضت نحبها في ساحة الوغى وألوفاً من العجزة من جراح أو أمراض أصابتهم في الحرب وكثرة الأيامى واليتامى ممن قضت عليهم أعمال القوة الوحشية أن يرفعوا باستلال أرواح ذويهم مجد أمته وعظمتها.
وبعد فلا يخفى أن كثرة انتشار الذكاء الإنساني في القرن التاسع عشر وازدياد مواد الغلات زيادة لا تنقطع بما تهيأ لها من وسائط العمل الطبيعي والعقلي وجمع الثروات العظيمة وسمو منزلة الذكاء الأدبية قد ولدت كلها سلسلة من الأهواء كانت فيما مضى مقصورة على طبقة قليلة من الناس. ذلك أن الإفراط في حب السلطة والصيت والطمع في الغنى والشرف وشدة الظمأ إلى البذخ والشهوات كان في القديم من خصائص الطبقة العالية والطبقة الغنية في الأمم فتناول اليوم أهل الطبقة الوسطى حتى أرادت السير على مناحي الطبقة العليا حذو القذة بالقذة. إذا عرفت هذا فقد ثبت لك أن الطموح إلى المطالب العالية والذهاب بفضل الشهرة لم يعم قط كما عم في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وقد أهلك هذا المرض الوبيل عدداً من القتلى أكثر مما أهلك من طبقات المجتمع المختلفة في أيامنا. ولئن تولدت الرغبة في الشهرة أحياناً من شعور شريف كريم وحملت المرء أن يفادي بمصلحته بل بحياته الخاصة توقعاً للنجاح فهذا الهوى يتبعه العجب أحياناً فيسود صحيفة صاحبه بحيث يبعده عن غايته المقصودة فيحدث أحياناً هيجاناً عصبياً يستحيل إلى زيغان في العقل واختلال في المدارك.
وهنا سؤال وهو لم كانت هذه الاضطرابات العقلية والأدبية؟ فالجواب عنها جواب لا يحتمل الريبة والمغالطة إن ذلك ينسب إلى ميل أبناء عصرنا فقد افتتن الشبان بأبهة الشهرة كأنها الغاية الأصلية في الجهاد الإنساني وكأنها غاية السعادة التي ينبغي الطموح إليها.