وانتظم الصحابة - رضوان الله عليهم – في تلك المدرسة، وحرصوا على أن يتلقوا فيها علومهم، حتى كان الرجلان المشتركان في تجارة أو نحوها يتناوبان مجالس العلم، ويخبر الحاضر منهم الغائب بما سمعه من العلوم في نوبته فيتعلمه منه [6] .
واستطاع هؤلاء الأصحاب أن يتحملوا الأمانة، وأن يبلغوها كما حملوها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحثهم عل التبليغ ويرغبهم فيه ويعلمهم أن المبلغ قد يكون أوعى من السامع، وأن حامل الفقه قد يكون غير فقيه، ويخلص من هذا إلى وجوب التبليغ على المسلمين فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "بلغوا عني ولو آية" [7] .
كما كان - صلى الله عليه وسلم - يبين للمسلمين الأسباب الداعية إلى التبليغ الموجبة للقيام به فيقول: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" [8] .
وهكذا يوضح الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزلة تبليغ الدعوة ونقلها إلى من لم يسمعها، لأن الدعوة قد تصل عن طريق البلاغ إلى من يقدرها قدرها ويدرك منها ما لم يدركه غيره ولو كان سمعها من فم الداعي إليها، وقد يكون حماس المبلغ للدعوة ودأبه على نشرها وحرصه على القيام بحقها أعظم ممن سمعها، وذلك لأن فقهه لأهدافها، وإدراكه لمراميها يشعره بعظم حقها عليه، فيبذل من وقته ليبلغها ومن ماله لنشرها، ومن فقهه ليرغب فيه.
وليس أدعى للتضحية في سبيل المبدأ من فقهه والإيمان به، وليس أقوى للنفس وأجرأ للقلب في سبيل نشر الفكرة من عقيدة تسيطر على صاحبها فتحوله إلى حركة لا تهدأ، وعمل لا يفتر حتى يصل إلى غايته.
ولن يتأتى ذلك إلا لرجل فهم دعوته وأدرك عظمتها؛ فدفعه ذلك إلى العمل الدائب من أجل تبليغها وإيجاد القلوب التي تحملها وتضحي في سبيلها.