وإلى هذا يشير الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره فيقول: "ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه.. (يقصد المنافقين في كل عصر وزمان) مثلين ينبئان بانقسامه إلى فريقين خلافا لما عليه أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
الأول: من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمارها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطناً، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمراً خصوا به، أو خيراً سيق إليهم لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في أنفسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم لأن حفظ الموجود أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه من شموس العرفان ونجوم الفرقان، لزعمهم أن فهمه لا يرتقي إليه إلا أفراد من رؤساء الدين يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا، فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة وانطماس الآثار دونها عنده مثل من استوقد نارا.