إذا أمعنا النظر في التشبيهات التمثيلية التي مضت نجدها قد رفعت الأستار عن الحقائق فأرتنا المتوهم متيقنا والمتخيل متحققا، وألبست المعنوي ثوب المحسوس، وأبرزت المعقولات في صدور مجسمة، فقربتها من العقول، وجعلتها مشاهدة ملموسة، ليست موضع شك ولا ارتياب، وقد كشفت عن ملامح الخبيئات، وعبرت بكلمات قليلات عما لا يمكن التعبير عنه إلا بآلاف الكلمات، وصورت فأجادت وأبدعت، وأكسبت المعاني النبل والشرف، وفعلت في النفوس فعل السحر.
مع التمثيل في القرآن الكريم
لقد تعرضنا فيما سبق لبعض صور التمثيل في الشعر، ووضحنا ما تنطوي عليه من اللطائف والأسرا ر.
ولكننا إذا جئنا إلى التمثيل في القرآن وجدنا أسلوبا فوق طاقة البشر، ووجدنا تصويرا فنياً عجيباً يعجز عن إدراك شأوه أساطين البيان، وتسجد له البلاغة في أسمى معانيها، وإنما كان التمثيل بهذه المثابة وتلك المنزلة لاشتماله على خصائص فنية لا توجد في غيره.
خصائص التمثيل في القرآن:
من هذه الخصائص الفنية:
1- تماسك الصور التمثيلية في القرآن تماسكاً شديداً يجعلها بحيث لو حاولنا فصل أحد الأجزاء لا نفرط عقد الصورة، وانتثرت معالم الجمال فيها، ومن هنا نرى القوة البيانية متمثلة في إعطاء الفكرة عن طريق الصورة التمثيلية مركبة الأجزاء، والعجيب في ذلك أن التمثيل نفسه لم يأت عبثاً، ولكننا نراه يجيء عقب فكرة يراد توضيحها، وتمكينها في ذهن السامع، هذا لما نعلمه من أن الحجة لا تقام إلا بعد طرح الدعوى وبسط الفكرة.
تأمل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [25] .
فقد يتوهم أن المعنى يفهم لو اقتصر في التشبيه على قوله: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل.