ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً حين يقرن بقية أجزائها إليها من حمل الأسفار، وعدم الفقه بما فيها، واعتقاد أنها كبقية الأحمال التي تثقل الكاهل وتجهد القوي، وذلك في جميع أبعاده يطابق حال اليهود وقد منحوا التوراة لتكون لهم نبعا يستقون منه الحكمة والهداية، ولكنهم يحملونها بإثقال سواعدهم بها دون أن يتدبروها، كأن على قلوبهم الأقفال [26] ..
فتمام الصورة لا يحصل إلا بتجميع كل هذه الأجزاء، وإلصاق كل تلك القيود ومن هنا تبرز الصورة قوية التعبير صادقة الأداء.
وتأمل قوله تعالى: في تصوير نفرة الكفار من الدعوة الإسلامية:
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [27]
فقد يظن أيضا قصير النظر أنه كان يمكن الاكتفاء في تصوير حالتهم بوصفهم بالحمر، ولكن المراد غير ذلك، فالمشركون لا يريدون إعمال عقولهم في خلق السماوات والأرض ليهتدوا إلى الخالق، وهم - في الوقت نفسه - لا يستجيبون إلى الداعي، بل كلما عرض عليهم من دعوته ابتعدوا عنه مسرعين، وكأن في أعماقهم شيئا يحثهم على الهرب منه والابتعاد الخاطف من طريق دعوته.
هذه الحالة لا تكفي لها حالة الحمر، وإنما تقتضي كون هذه الحمر مستنفرة مدفوعة- من نفسها أو من غيرها- إلى العدو الجبان، ثم تزداد الصورة وضوحاً، وتمكنا من النفس عندما يلحق بها جزئية الفرار من أسد هصور يطلبها طعاما لأنيابه ومخالبه، فنجدها تتفرق في كل مكان هائمة على وجهها، والخوف الشديد يملأ صدورها.. فهذا أبلغ تصوير لإعراض الكافرين عن الدعوة، وهو في الوقت نفسه بعث للنفس العاقلة على السخرية منهم [28] .
2- انتقاء ألفاظ التمثيل في القرآن، واختيارها اختياراً مناسباً للمعنى، معطياً كل ما يتطلبه المقام ومن هنا كان التمثيل في القرآن موحياً مشعاً لا يكاد ينقر حبات القلوب حتى يؤثر فيها بطريقة فنية ونفسية عجيبة.