وفات هؤلاء، وأولئك أن الاتجاه التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الصناعية الأوروبية الحاضرة لم ينشأ ابتداء في أوربا، وإنما نشأ في الجامعات الإسلامية في الأندلس، والمشرق مستمد أصوله من التصور الإسلامي وتوجيهاته إلى الكون وطبيعته الواقعية، ومدخراته، وأقواته..
ثم استقلت النهضة العلمية في أوربا بهذا النهج، واستمرت تنميه ترقيه، بينما ركد وترك نهائيا في العالم الإسلامي بسبب بُعْد هذا العالم تدريجيا عن الإسلام، نتيجة عوامل بعضها يكمن في تركيب المجتمع، وبعضها يتمثل في الهجوم عليه من العالم الصليبي والصهيوني.. ثم قطعت أوربا بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الاعتقادية الإسلامية، وشَردت به نهائيا بعيدا عن الله، في أثناء شرودها عن الكنيسة، التي كانت تستطيل على الناس –بغيا وعدوانا- باسم الله [34] !!.
وكذلك أصبح نتاج الفكر الأوربي بجملته، شأنه شأن نتاج الفكر الجاهلي في جميع الأزمان، والبقاع شيئا آخر، ذا طبيعة مختلفة من أساسها عن مقومات التصور الإسلامي، ومعادية في الوقت ذاته عداء أصيلا للتصور الإسلامي. ولذلك وجب على المسلم أن يرجع إلى مقوّمات تصوره وحدها، وألاّ يأخذ إلاّ من المصدر الرباني إن استطاع بنفسه، وإلاّ فلا يأخذ إلاّ عن مسلم تقي، يعلم عن دينه وتقواه ما يطمئنه إلى الأخذ منه والتلقّي عنه.
ولهذا فإني أوافق الناقد الإسلامي الأستاذ سيد قطب على نظرته العميقة في أن حكاية فصل (العلم) عن (صاحب العلم) 1 لا يعرفها الإسلام فيما يختص بكل العلوم المتعلقة بمفهومات العقيدة المؤثرة في نظرة الإنسان إلى الوجود والحياة والنشاط الإنساني، والأوضاع، والقيم، والأخلاق، والعادات، وسائر ما يتعلق بنفس الإنسان، ونشاطه من هذه النواحي.