ولا يغيب عن مثل النابغة إدراك التفاوت بين صيغ الألفاظ، ودلالتها على معانيها، وهذا هو نقده آية حذقه ومعرفته بدلالات الألفاظ على المعاني, ومدى ملاءمة ذلك لمقامات الكلام، فإنّ اللفظ يجب أن ينهض بحق المعنى كله, وحين يقصر اللفظ عن استيعاب المعنى يبدو النقص في التعبير الذي يزري بالأسلوب!!

أما نقد البيت الثاني فقائم على ملحظ لطيف للنابغة، فإنّ عادة الجاهليين في فخرهم أن يذكروا مناقب ومآثر آبائهم وأجدادهم، ولا أن يتباهوا بأبنائهم وأحفادهم، وقد استمرت هذه العادة مسيطرة فترة طويلة حتى لمسنا آثارها لدى شعراء بني أمية، فها هو الفرذدق يقول لجرير متفاخراً:

إذا جمَعَتْنا –يا جريرُ- المجَامِعُ

أُولئك آباَئي فَجئْني بِمِثْلهمْ

ولو كان النابغة يعيش الآن ما عاب حسانا، فإنّ عادة الآباء تجري في هذه الأيام على التباهي بأبنائهم، لا سيما الذين يبرزون، ويتفوّقون، فيحقّقون بهذا سبقا وشرفا يضاف إلى كل آبائهم، فالولد سِرُّ أبيه، كما يقولون.

وأيًّا ما كان الأمر فإنّ نقد النابغة لحسّان ينمُ عن خبرة غير محدودة بتقاليد الجاهليين، وهذا يجعلنا لا نقبل التشكيك من أحد نقادنا المعاصرين لهذه الرواية، حيث قال:

"وبعيد كل البعد عن روح الجاهليين وعن طبيعة العصر الجاهلي ما يضيفه بعض الرواة إلى قصة النابغة مع حسان في (عكاظ) .

فإن الجاهلي لم يكن يعرف جمع التصحيح، وجمع التكسير وجموع القلة، وجموع الكثرة، ولم يكن له ذهن علمي يفرِّق بين هذه الأشياء، كما فرَّق بينهما ذهن الخليل وسيبويه، ولأن مثل هذا النقد لا يصدر إلاّ عن رجل عرف الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألمّ بشيء من المنطق والفلسفة".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015