وبعد أن فرغ الأعشى من إنشاده، قام حسان بن ثابت الأنصاري فأنشد قصيدته التي قال فيها مفتخراً:
وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَة دَمَا
لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحا
فَأكرِمْ بنا خَالاً، وأَكْرِمْ بنا ابْنَما [6]
وَلَدْنَا بَني العَنَقَاءِ وابنيْ مُحَرِّقٍ
فقال النابغة: "أنت شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن أنجبك!! "
هذا وذكر أنّ الخنساء السُّلمية جاءت إلى هذا المجلس، فأنشدته قصيدتها في رثاء أخيها صخر:
أَمْ أَقْفَرَتْ مُذْ خَلَتْ مِنْ أهلها الدار
قذى بِعَيْنك أمْ بالعَيْنِ عُوّارُ
فقال لها النابغة: والله لولا أن سبقك أبو بصير فأنشدني آنفاً لقلت: إنّك أشعر الجنِّ والإنس!! , فقال حسان: والله لأنا اشعر منك، ومن أبيك ومن جدِّكَ!
فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي، إنك لا تُحْسن أن تقول مثل قولي:
وإنْ خِلْتُ أن المنَتَا عَنْكَ واسعُ
فإنّكَ كاللَّيلِ الذّي هُوَ مُدْرِكي
ثم قال للخنساء: أنشديه فأنشدته، فقال: والله ما رأيت أنثى أشعر منكِ!! فقالت له الخنساء: والله ولا رجلا!!
ومما تقدم تلمحون صورة النابغة الشاعر الناقد العملاق يجلس للحكم بين الشعراء ثم يقضي قضاءه الفصل بتفضليه شعر الأعشى والخنساء على سائر الشعراء، وخطابه لحسان قائلا له: أنت شاعر، بيد أنك استعملت في البيت الأول لفظتي: الجفنات، والأسياف، وهما ينبئان عن القلة، وكان لزاما عليه في مقام فخره واعتزازه بقومه أن يستخدم مكانهما: الجفانَ والسيوف (صيغتي جمع الكثرة) ، إذ الفخر يناسبه التكثير لا التقليل!!.